يمكن القول بوجود دوافع أربع رئيسية للتحولات الفكرية لدي مبدعي الثقافة العربية من منحى فكرى إلى آخر، ومن توجه إيديولوجى بذاته إلى نقيضه الدافع الأول معرفى، توقفنا عنده فى الحديث السابق، ويتعلق إجمالا بالخبرات الفكرية التى تتراكم لدى المبدع، وتدفع به عبر مراحل عمره الممتده، وبتأثير خبرات تراكمية كبيرة، إلى تعديل تدريجى بطئ وعميق فى رؤاه ومواقفه إزاء القضايا الكبرى نحو الاعتدال والتوازن ما يعد دليلا على نضجه النفسي والفكرى. والدافع الثانى وجودي: وأعنى به محاولة المبدع التوافق مع المكونات الأساسية لهويته كلما طال به العمر وشارف علي الرحيل، بتأثير مخاوف الفناء وهواجس العدم. ففي هذا السياق نلمس الإقتراب التقليدى من الإيديولوجيات الإسلامية، مثلا، لدى عديد من المبدعين المصريين والعرب في مرحلة العمر المتأخر، وبعد أن تكون الموجة الفكرية العالية التي حفزته في شبابه وصاغت معالم شخصيته قد انكمشت بفعل العمر أو اُحتبست بفعل المناخ العام أو اُستهلكت بتأثير حالة الإحباط القومي. ويبدو لى أن هذا الدافع يرتبط بطبيعة الرؤية الإيمانية للتاريخ، خصوصا الرؤية التوحيدية التى يقع الإسلام فى القلب منها، وجميعها تربط نهاية التاريخ بحدوث القيامة التي تختلف صورتها طفيفا بين الأديان التوحيدية، ولكن جميعها يتفق على أن القيامة هى نهاية عالم الشهادة، الذى يتم بعده الحساب ثوابا وعقابا. وفى المرحلة المتأخرة من رحلة العمر يبدو فيها أكثر الناس، ومن بينهم هؤلاء المفكرون، أكثر حرصا على التأسيس لما بعد الحياة أكثر من الحياة نفسها، وإن كانوا لا يقولون ذلك صراحة، بل يمارسونه من خلال آلية ذهنية (نفسية) معروفة وهى إعادة قراءة الماضى على ضوء المستقبل، ومن ثم القيام بتقديم تأويلات جديدة لأحداث التاريخ نفسه الذى عاشوه وأنتجوا فيه أفكارهم الأولى. والدافع الثالث سياسي يتعلق بموجات التحول العالمي، فالذى لاشك فيه أن نهاية الحرب العالمية الثانية وبروز الاتحاد السوفيتي كقوة عظمي من داخل فضاء الحداثة الفكرية ولكن من خارج إطار الليبرالية الغربية قد ألهم عديدين من مثقفي العالم وأجياله الشابة لأربعة عقود علي الأقل بلغت ذروتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية حينما دخلوا فى حالة ثورية جعلتهم يتصورون إمكانية نشوء عالم حديث خارج إطار المركزية الغربية، فانطلقت في كل أنحاء العالم موجة إعجاب باللينينية والماركسية والاشتراكية الإنسانية، حيث كان النموذج من بعيد ومن خارج، يبدو جذابا وجاذباً، ولم يكن في ذلك أي غرابة. في هذا السياق لم يكن غريباً أن تحدث مراجعات كبري لدي مثقفي العالم بعيداً عن الإيديولوجيا الاشتراكية بكافة أطيافها، ولم تكن الثقافة العربية استثناء من هذا وهي تشهد نكوص العديدين من المثقفين اليساريين عن أطرهم الفكرية في اتجاهات عدة أبرزها الاتجاه الإسلامي الذي شهد موجة صحوة ثالثة مع بداية عقد التسعينيات، إذ وجدوا في الإسلام السياسي طوق نجاة يمدهم ب (العقيدة الفكرية) التي يقتاتون عليها، إذ اعتادوا الأنساق الفكرية الشمولية إن لم يكن المغلقة، وقد وجدوها خصوصا لدى تيارات الإسلام السياسي التى تحوز نفس العقلية (الإعتقادية) التى كانت للشيوعية وإن حولت نظرتها فى الإتجاه المضاد، فالبنية العقلية الشمولية واحدة (جوهريا) وإن اختلفت أشكالها (ظاهريا). وفي بعض الأحيان كان ثمة تحولات فكرية مخلصة باتجاه التيار الليبرالى لدي مفكرين ومثقفين وجدوا في هذا النموذج قدرة أكبر علي النجاح وإن كان خطأهم الأكبر هو الإسقاط المتعالي له بتاريخه الطويل فى السياق الغربى علي واقع عربي مغاير فى تاريخه السياسي وابنيته الطبقية التى لا تعيق بالضرورة ممكنات التطور الديمقراطى، ولكنها فقط تفرض البحث عن مسالك ذاتية أكثر أصالة وأعمق تجذرا من مجرد القبول، مثلا، بالاحتلال الأمريكى لبلدان عربية بدعوى فرض الديمقراطية عليها. أما الدافع الرابع فنفعي/ أناني/ سوقى يتعلق بالإنقلاب على الذات سعيا إلى مآرب مباشرة، فثمة كثيرين تحولوا جذريا عن مواقف فكرية قديمة بفعل ارتباطات جديدة بسلطات كانوا قد نشأوا وتكونوا في ضديتها أو علي الأقل فى موقع محايد منها، وذلك بعد فشل القوي التي طالما دافعوا عنها أو ذبول التجارب التي تحمسوا لها، ومن ثم بدأوا في التكيف مع الواقع واللعب علي المضمون بغرض انتهاز الفرصة لتحقيق مصالح مادية أو أدبية بعد أن فات قطار العمر ولم تتحقق الرؤي المثالية أو الأحلام السياسية، فهناك الماركسي الذي ذهبت أحلامه مع انهيار الاتحاد السوفيتي فلم يجد ملاذاً غير السلطة في أغلب الأحيان، أو التيار الإسلامي في بعضها والليبرالي في أقلها ليندمج فيها معيداً تشكيل مواقفه الفردية التي تعرض للإيذاء أو الإهمال بسببها. وربما كان هذا هو حال أولئك الذين تشكل الإيديولوجيا نصيباً كبيراً أو حاسماً فى تكوينهم الفكرى قياسا إلى المعرفة التى تضطلع أنذاك بالنصيب الأقل، فالمثقف المؤسس على معرفة رصينة لا يصيبه ذلك التحول الجذرى قط أو علي الأقل بالدرجة نفسها التي يصيب بها المثقف الإيديولوجي. وأخيرا يمكن القول بأن النظرة المتأملة للمشهد الفكري العربي سوف تكشف عن عديد التحولات الفكرية، وعن وجود هذه الدوافع الأربعة كلها، وربما أخرى، كامنة خلفها، ولذا لا يجب وضعها جميعا فى سلة واحدة، فمنها ما يمكن وصفه بالمراجعات النقدية لدى الرواد الكبار كما كان قد لاحظ لويس عوض، واستنكر جابر عصفور، وهى مراجعات لا تنال من قدر أصحابها. وهناك ما يمكن وصفه بالإنقلابات الجذرية، التى تثير الشك فى قدرات المفكر المعرفية أو دوافعه الشخصية، إذ غالبا ما تعبر عن طفولية عقلية، أو انحياز أنانى، أو سوقية سياسية، وربما جميعها. لمزيد من مقالات صلاح سالم