سعدت كثيرا حين طلب منى الفنان ولكاتب اشرف عبد المنعم أن اكتب بعض المقالات عن الموسيقى فى جريدة «الأهرام» العريقة, وكان السؤال الذى ساورنى كثيرا, ماذا على أن اكتب؟ واهتديت إلى أن امزج بين واجبى كمؤلف موسيقى وكاتب, وان القى الضوء للقارئ الكريم على نوع من ارقى أنواع الموسيقى العالمية و التى لم تتعرف عليها الأذن العربية بعد. نوع من الموسيقى يخاطب الفكر والوجدان, يتجول فى أعماق النفس البشرية مستخدما مفردات موسيقية غير تقليديه وإنما هى بدون شك تلمس النفس وتدعو إلى الفكر. لاشك أن البعض منا وخاصة محبى الموسيقى سمع عن مصطلح غير متداول يدعى (الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة) ولكن الكثيرون منا لا يدرك ماهية هذه الكلمة الغربية الأصل ولم ير ما هو مستتر خلفها. فالموسيقى الكلاسيكية المعاصرة فى حقيقة الأمر هى موسيقى كلاسيكية غربية تعرف عليها الشعب المصرى منذ أكثر من مائة عام, مثل موسيقى بيتهوفن, موتسارت, تشايكوفسكى وغيرهم, وإنما ما نتحدث عنه اليوم هو ليس بأعمال هؤلاء العظماء وإنما أعمال عظماء آخرين بدأ التاريخ بالفعل فى تسجيل أسمائهم و إبداعاتهم لما كان لهم من أضافه حقيقية غيرت وشكلت المفاهيم الموسيقية آخذه شكلها الجديد فى القرن العشرين والحادى والعشرين. واليوم أود وان أقدم لكم عملا يعد من الأعمال المهمة فى تاريخ الموسيقى المعاصرة لمؤلف من ابرز المؤلفين وأهمهم وهو كونشيرتو التشيللو والاوركسترا للمؤلف البولندى لوتوسوافسكي, ولكنى قبل أن أخوض فى هذا العمل معك أود وأن نبتعد قليلا عن عالم الصوت والموسيقى متجهين إلى عالم آخر, عالم يبدع فيه البشر, لا اعرف أين ولكننى على يقين أن هذا العالم سوف يهدينا ويعيدنا مره أخرى إلى وطن الموسيقى الحبيب. فلنتخيل أننا فى حجرة مظلمة يتوسطها تمثال برونزى لفارس ممتطيا جواده رافعا سيفه, تضيؤه من قرب خافت ضوءها راسمه ظله على الحائط, ظل لعوب محير لا يثبت على حال, يتلون ويتحور كلما تلاعب لهب الشمعة أمام تمثالها الجامد, يتضخم تارة و يتقزم تارة أخري, أو يسقط ضؤها على ركن من أركان الحجرة، حيث تلتقى الحوائط فيتكعب أو يستطيل, ربما تطول انف الفارس عن سيفه أو يتقزم طول جواده عن ذيله, وربما تختفى المعالم الحقيقية لفارسنا الشجاع وتولد لنا صور أخرى فنرى القلاع والبحار أو السحب والأشجار وربما نرى قطه او فأر مرتعد! وكلما سبح بنا الخيال, نظرنا إلى التمثال لنتذكر فارسنا الشجاع صامتا على جواده, لم يبرح مكانه, فاطمأنت قلوبنا متشوقة للإبحار مرة أخرى فى عالمها المختار بيسر وأمان, وهكذا يترنح الفنان بين عالم الواقع والخيال. ولو استمعنا إلى كونشيرتو التشيللو للوتوسوافسكى لشاركناه نفس الرحلة, رحلة يغوص فيها كل إنسان إلى أعماق البحار ثم يطفو على السطح عائدا بخيرات البحار وأسرارها مستنشقا كفايته من الهواء النقى اللازم لبدء رحلة جديدة. فقد بنى لوتوسوافسكى الكونشيرتو على نغمه واحده قصيرة (نغمه الري) تكرر بشكل منتظم على مدار ما يقارب الخمسة وعشرين دقيقه دون أى ملل أو حتى رتابة, ففى كل مره نلقى بأبصارنا على تلك النغمة نرى ظلالها على الحائط متجسدة فى مصاحبه اوركسترا ليه متلونة تختلف فى كل مره, فنرى مره أخرى انف الفارس الطويلة أو رأسه العريضة أو ربما يلهو المؤلف كما يحلو له. فى هذا النوع من القصص الموسيقى لا يعبأ المؤلف بالألحان ألغنائه أو الراقصة التى غالبا ما ينتظرها المستمع التقليدي, فالموسيقى هنا لا تنشد الشجن والسلطنة بقدر ما هى تغوص فى أعماق الفكر الإنسانى مداعبة المؤلف الموسيقي، فهو لا يعبا إن كان الفارس برونزيا أم ذهبيا أو حتى صدئ, و إنما وجود الفارس فى حجرته المظلمة بجانب شمعة هو نقطة البداية. ويمكنكم الاستماع الى هذا العمل على صفحه اليوتيوب. www.youtube.com Lutoslawski Cello Concerto