إنه حقا موسم العجائب هذا الذى تعيشه تركيا، لهول تناقضاته وتبريراته وثقل تفسيراته، فمازالت تداعيات الفساد تتوالى وكل يوم هناك الجديد وها هو تسريب تليفونى يجد طريقه لشبكات التواصل الاجتماعى، وفيه تفاصيل كذبت تصريحات سبق وادلى بها رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان ويشير إلى أن أفرادا من عائلته وتحديدا إبنته سمية ووالدتها السيدة أمينة إستغلتا نفوذ عائلهما وحصلتا دون وجه حق على فيلتين فى إزمير الواقعة على بحر إيجه غرب الاناضول. بالتوازى وجدت قطاعات عريضة من المجتمع التركى نفسها أمام موجة إنجازات ومشاريع تفتتح هنا وهناك وهو ما طرح استفهامات عديدة، فبعد عشرة سنوات وربما أكثر منذ أن بدأ العمل فى مد مترو انقرة لعدد من ضواحى العاصمة، وسط تأكيدات بالافتتاح بعد أربع اعوام على الأكثر لكن ندرة الإعتمادات حالت دون تحقيق ذلك يسلط الضوء مجددا عليه وطوال الاسابيع القليلة الماضية جرى العمل على قدم وساق إلى أن أفتتحه الرئيس عبد الله جول فى حضور رئيس الحكومة الاسبانية الذى شاركت بلاده فى التنفيذ. ولم يكن الأمر مصادفة فرئيس البلدية مليح جوتشاك يواجه منافسة شرشة من قبل ممثل الشعب الجمهورى المعارض، من هنا كان التركيز عليها وعلى إسطنبول، فالأخيرة كانت على موعد مع مشروع مماثل فصانع القرار يدرك أن ظفر المعارضة بالمدينيتين يعنى بداية نهاية الحزب والحكومة معا. ومع تأزم الحكومة وتراجع شعبيتها بفعل فضائح الفساد التى تكشفت فى السابع عشر من ديسمبر العام الماضى، كان لابد من منقذ وبدائل تزحزح الوضع المأزوم، خاصة أن العدالة والتنمية صاحب الأغلبية بالبرلمان، مقبل على استحقاق، هو فى الحقيقة تحد، يتمثل فى انتخابات المحليات، المفترض أن تجرى بعد شهر ونصف الشهر من الآن وهكذا صدرت توجيهات إلى البلديات بعموم الاناضول، ومعظمها تحت أمرة الحزب الحاكم، بإنجازالمشاريع المعطلة وضخ الاموال لتسريع العمل بها، وقبل اسابيع، وفى حضور رئيس الحكومة اليابانية، افتتح مترو مرمرة، بشكل جزئى فقط للتصوير والدعاية ثم عاد يستكمل أعماله وحتى الآن لم يعلن تدشينه فعليا للجمهور . المهم أن وسائل الإعلام المرئية التى باتت ملك يمين الحكم نقلت على الهواء منباشرة أدق التفاصيل، المثير أن إنطلاق موعد الحملة الانتخابية لم يحن رسميا بعد، ورغم ذلك يجوب اردوغان المحافظات والمدن يشحذ الجماهير الغفيرة التى يخيل للمتابع لها على شاشات التلفزة أنهم بالالاف وسط تلال من شرائط الحزب البيضاء يتوسطها المصباح نور العدالة، ومعها الاعلام الحمراء وفى منتصفها النجمة والهلال الأبيضان. لكن اين المعارضة من كل هذا؟ خيل من فرط حصارها وأنها تبخرت، فلا حديث عنها إجمالا فى التلفاز اللهم النذر اليسير، وعلى إستحياء من باب أن البلاد تنعم بالديمقراطية . ورغم حملات التضييق والخناق على الخصوم والقوى السياسية المناوئة، فإن مشاهد تسربت وفيها تعليقات اتسم معظمها بالسخرية، واصفة تلك الإنجازات بالرشاوى الإنتخابية للتأثير على شرائح عريضة من البسطاء ثم متسائلة: لماذا هذا الزخم المبالغ ؟ محاولات الحكومة هذه سرعان ما كذبتها ارقام الاقتصاد المترنح بدءا من زيادة العجز فى الميزانية العامة، مرورا بقيام مؤسسات دولية بتخفيض التصنيف الائتمانى لها من مستقر إلى سالب، إنتهاء بتقهقر الصادرات مع الدول الحدودية المجاورة بنسبة 16 %. وعلى صعيد الحزب ذاته إستمر نزيف الاستقالات بصفوفه إذ قدم 150 عضواً بحزب العدالة والتنمية الحاكم بمدينة اسكندرون جنوب البلاد استقالتهم الجمعة 14 الشهر الحالي، إحتجاجا ورفضا لسياسيات زعيمه الذى أصبح يسير فى طريق خطأ لا يعلم عاقبته إلا الله على حد تعبير احد الاعضاء المستقيلين. الطريف أنه فى الوقت الذى كانت وسائل الإعلام تنقل مؤتمرا جماهيرا لاردوغان تغنى فيه بالحرية غير المسبوقة والتى ينعم بها جميع طوائف المجتمع اصدرت إحدى المحاكم بمدينة اسكى شهير غرب البلاد حكم نهائى بمعاقبة اربعة مواطنين بالسجن لمدد تراوحت بين سنة وسنتين بتهمة إهانة رئيس الوزراء طيب اردوغان اثناء مشاركتهم بالمظاهرات التضامنية مع نظيرتها فى إسطنبول أبان أحداث جيزى بارك نهاية مايو الفائت ، وكان الدفاع عنهم قد أكد أن الكلمات التى تلفظوا بها عادية لا تنم عن سب بل وتقال فى كل مكان ولا تحمل أى قذف مطالبين فى نهاية مرافعتهم ببراءة موكليهم غير أن المحكمة ردت بتخفيض العقوبة من 31 عاما لعام وعامين فقط. وطبيعى أن تظهر تلك الأحكام المدى الذى وصل إليه قمع الحكومة إضافة إلى ديكتاتوريتها ويوم السبت الماضى حفلت الشبكات الفضائية المارقة بمشاهد أشبه بالمصارعة الحرة بيد إنها جرت تحت حلبة قبة البرلمان المعنون هنا بالمجلس الوطنى التركى الكبير، إذ عاد العراك مجددا والذى بدأ بمشادة كلامية تطورت إلى تراشق بالالفاظ الجارحة، ثم المشاجرات وتشابك بالايدى بين برلمانيين من الحزب الحاكم واعضاء من الشعب الجمهورى المعارض، أفضت إلى دخول سيارات الاسعاف لتنقل معارضا مصابا بلكمة فى الوجه ونائبا من العدالة حدث كسر بأصبعه . والسبب التعديلات التى أجرتها الحكومة على قانون السلطة القضائية، والتى تجعل وزير العدل له اليد الطولى على النظام القضائى برمته، غير أن المهم هو أن ذلك التشريع القانونى ما هو إلا حلقة من سلسلة حلقات يسعى خلالها رجب طيب اردوغان إلى بسط سيطرته الكاملة على مفاصل الدولة، من جانبه كرر رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية تحذيراته معتبرا ما يحدث من إجراءات وسياسات مخالف للقواعد الدستورية المستقرة، ويضرب فى مقتل إستقلالية القضاء. والحق لم يكن الرجل يغرد لوحده فشاركه قانونيون مخضرمون مؤكدين أن البلاد تعود للوراء ولن يكون فى مقدورها أن تتحدث عن حلم اللحاق بالاتحاد الاوروبى، فلا يمكن للاخير أن يقبل بلدا ينتهك القانون ويغل من الحرية فيه.