نغمتان لا ثالث لهما الأولي وهي الرسمية وفيها كل شئ علي ما يرام ، فقط الأعداء لا يريدون للبلاد الاستقرار والنجاح أما الثانية فمفرداتها كالتالي : الازمة مستحكمة والدولة يحكمها الاستبداد والتسلط ،ويبدو أن الواقع المعاش لا يرتكن إلى التصريحات الحكومية الوردية ، ولكنه يميل للثانية خاصة بعد اقرار التعديلات على قانون السلطة القضائية بالبرلمان التركى أمس الأول والشواهد على ذلك كثيرة نرصد منها ثلاث حالات: طرد صحفي من البلاد لأنه انتقد رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان علي صفحات التواصل الإجتماعي، هذا ما قيل بشأن ما حدث مع ماهر زينالوف الأذريبجاني محرر الموقع الإلكتروني لجريدة "زمان توداي" اليومية المقربة من الشيخ فتح الله جولين مفجر فضائح السابع عشر من ديسمبر الماضي ، وهو ما دعا رئيس تحرير الصحيفة بولنت كينيش أن يعتبر ما حدث أمرا إستبداديا وتعسفيا ، وهو " ليس اعتداء علي صحيفتنا بل هي محاولة لترويع كل الصحافيين الأجانب الذين يعملون في تركيا " . في المقابل نفت الحكومة اي دور لها في إبعاد ذلك الصحفي وذهب مؤيدون لاردوغان للقول بأن زينالوف تعمد التأخر في إصدار تصريح العمل حتي يظهر أنه مخالف فيتم ترحيله ليصبح ضحية . كان محامون قد سبق وقدموا شكوي ضد " ماهر " قبل شهرين تقريبا لكتابته علي تويتر " إن رئيس الوزراء يتدخل في العملية القضائية من خلال سعيه إلى عرقلة إلقاء القبض علي من يشتبه في انتمائهم لجماعات مرتبطة بتنظيم القاعدة وهو اعتداء مباشر علي شرف وسمعة اردوغان وحقوقه الشخصية " زاد علي ذلك أن أنصار الأخير قالوا " أن تصوير حزب العدالة الحاكم علي أنه يسهل صعود هذا التنظيم في الحرب الأهلية السورية من خلال غض البصر عن مرور الأسلحة والمقاتلين عبر الحدود " هو جزء من الجهود التي يقودها جولين لإضعاف الحزب وزعيمه معا . مصادرة الانترنت فعلي مدي ثمانية أشهر تقريبا منذ أحداث جيزي بارك الشهيرة ، والتي مثلت تحديا هو الاول من نوعه لحكمه الممتد لأحد عشر عاما ، لم ينس اردوغان ما اعتبره معضلة ألا وهو "الانترنت " كونه من وجهة نظره ، المحرك الأساسي للغضب ضده وضد حزبه العدالة والتنمية الحاكم . وطوال تلك الفترة وذهنه لم يتوقف عن كيفية إتخاذ إجراء من شأنه كبح جماح هذا المسمي ب" التواصل الاجتماعي مخرب عقول الشباب والباعث علي الفتن". إذ ادرك تماما دون أن يخالجه أدني شك ، أن الانترنت هو المسئول الاول عن زحف الآلاف منددين بحكمه بدءا من نهاية مايو العام الماضي ، ليس في ميدان تقسيم باسطنبول فحسب بل في أنقرة العاصمة ومنها إلي ربوع الاناضول المختلفة. وحتي يقضي علي أي إمكانية كي يلعب دورا من جديد ، والبلاد تقترب من أول استحقاقاتها الانتخابية ، المتمثلة في الانتخابات المحلية المقرر اجراؤها نهاية الشهر المقبل ، ها هو البرلمان التركي يقر أخيرا بأغلبية ضئيلة ، قانونا للرقابة علي الانترنت ، ليضيف قيدا هو الأهم علي تلك الوسيلة المحاصرة بالفعل قبل خمس سنوات . الغريب أن رئيس البرلمان جميل تشيشك ومعه نائب رئيس الوزراء قالا أن بلادهما لن تكون أبدا مثل الصين ، في رد بدا ساذجا وغير مقنع علي ما سبق وذكره تقرير حول الشفافية ، أذيع يناير المنصرم وفيه وضع موقع جوجل ، كلا من تركياوالصين في صدارة الدول من حيث الرقابة علي الإنترنت. المعارضة من جانبها ادانت القانون واصفة إياه بالإعتداء الصارخ علي حرية التعبير ، إذ يسمح لجهاز الرقابة علي الاتصالات بحجب مواقع دون الحصول علي حكم قضائي، ليس ذلك فحسب بل سيلزم شركات خدمات الانترنت بتخزين البيانات لمدة عامين كاملين وتسليمها للسلطات الأمنية . المثير في كل هذا ، أنه يأتي في وقت تزداد فيه لهفة الحكومة وإلحاحها علي تسريع مفاوضات الإنضمام إلي الأتحاد الاوروبي الذي لم يتوقف هو الآخر عن إدانته لقمع الصحفيين أولا وبعدها تقييد عمل القضاء ثانيا ، فهل يتوقع صناع القرار في وريثة الامبراطورية العثمانية أن ترحب القارة العجوز بفرض سطوتهم علي الانترنت ؟ عودة صرخات "تقسيم" ففي إستجابة لدعوات مجموعات كثيرة من القوي الشبابية ، ها هي المظاهرات المناوئة للحكم ، تعود من جديد ، إلي ميدان تقسيم الشهير وشارعه إستقلال بقلب إسطنبول ، وقد أخذت عنوانا عريض هو "أرفعوا ايديكم عن الانترنت" ، وفي كل حركة إحتجاج ، لابد وان يطالب المتظاهرون بإستقالة رئيس الحكومة بعد أن اعتبروه حاكما إستبداديا مؤكدين أن الإنترنت آخر الحريات الباقية بعد تكميم الصحافة وحصار القضاة. غير أن إردوغان له رأي مخالف، حيث يؤكد في دفاعه المستميت عن القانون أنه يجعل الإنترنت أكثر حرية.مشددا علي أنه لا توجد مطلقا أي رقابة علي العكس،فقد صار أكثر أمنا. وكما هو متوقع جاء رد الشرطة بإطلاق وابل من قنابل الغازات المسيلة للدموع ، إضافة إلي خراطيم المياه لتفريق المئات الذين هرعوا إلي الشوارع الجانية وأذقتها الحلزوينة ، مستخدمين الالعاب النارية وقطع الحجارة الصغيرة وبالطبع لم تشر الميديا المرئية التي باتت ملك يمين الحكومة لهذه الاحداث، فلم يعد شرطا أن تأتيها التعليمات فهي قد عرفت من نفسها المطلوب منها في مثل هذه الحالات. ومما يدعو إلى السخرية أنه في الوقت الذي كانت وسائل الإعلام تنقل علي الهواء مباشرة مؤتمرا جماهيريا لرجب طيب اردوغان بغرب إسطنبول، كان العشرات يغلقون مداخل المحطة البرية لنقل الركاب بين الاقاليم، إحتجاجا علي أوضاعهم المعيشية . والآن ووسط الهتافات المطالبة ب " الموت للفاشية الأردوغانية " تتجه الانظار إلي الكشك،اي القصر الجمهوري ترقبا لرد فعل الرئيس عبد الله جول، وهل سيستجيب لدعوات دولية وداخلية بألا يوقع علي القانون وبالتالي وقف تفعيله أم لا، في ظل ما قاله بيتر ستانو، الناطق باسم ستيفان فولي المفوض الأوروبي لتوسع الاتحاد مؤخرا من أن الرأي العام التركي يستحق المزيد من المعلومات والشفافية وليس المزيد من القيود.