يعود تاريخ منزل على بك لبيب الى منتصف القرن الثامن عشر، اختارته وزارة الثقافة في عام 2010 ليكون مقرا لبيت المعمار المصري، وهو الحلم الذي ظل يداعب مؤسسه المعماري الكبير عصام صفي الدين، الى ان اصبح حقيقة لا تنقصها سوى بعض الرتوش النهائية، هي شغله الشاغل هذه الايام، وكما أسر لنا فإنه يخشى الا يكون في العمر بقية ليتمكن من افتتاح المكان وهو يرى اصدقاء العمر يتساقطون يوما بعد الآخر. هذا المتحف الذي يأمل صاحبه ان يساهم في شحن وتقوية مشاعر الانتماء لهذا الوطن لدى كل من يزوره من خلال التعرف على عمارته عبر الزمن، وهو الهدف الذي يشعر صفي بأنه مهمة اختاره الله لتنفيذها، بعد ان وضعه في طريق فنانين عظماء، فانفتحت له آفاق لم تتح لغيره من زملائه. في بيت المعمار حيث كل شىء أصيل، التقينا المعماري عصام صفي الدين الذي أرخ للعمارة في مصر باستخدام الريشة، وهي المهارة التي اكتشفها وهو فى الرابعة من عمره ، ليدور بيننا حديث ذو شجون حول أحوال العمران المصري، وغياب الاحساس بالجمال، وسيطرة ثقافة القبح بين المصريين، الذين شبههم بمن لم يعد يشعر بوغزات الدبابيس ،,واختفاء الاحساس بالألم، إثر تواليها وتكرارها. العمران المصري كما أرخ له صفي الدين يعود تاريخه على الاقل الى 15 ألف عام مضت، تبدأ مع أول بدايات الاستيطان في كل مكان يمكن الاستقرار والزراعة به ، سواء على ضفاف الانهار او على لسان او خليج في بحر، او انحناءة في نهر، او جبل يمكن نحته ، او صحراء قابلة للاستزراع، وكلها بالطبع كانت أشكال عمارة بدائية ، فهي مجرد مكان يمكن العيش به، وقد تأتي فيضانات فتغرق كل شيء . يتطور الأمر بعد ذلك الى ظهور نواة لقرية لها أهلها، ويمكن ان يحل بها الزائرون، لينشأ مع الزمن تجمع عمراني لبلدة تقادم فيه العمران، تحولت الى مدينة ،ثم عاصمة لاقليم ثم عاصمة لدولة، فظهر ما يسمى بالعمارة الشعبية، وهي متعددة الأماكن الجغرافية وممتدة عبر الأزمنة ،وهي تفتقر الى التصميم او التخطيط، ويتجسد بعضها في الأحياء القديمة من المدن التاريخية مثل القاهرة، واسيوط، وطنطا والاسكندرية. يتابع صفي الدين: « مع تراكم الخبرة البنائية ،ظهر النظام المدني - نسبة الى كلمة «مدن»، واصبحت وظيفة العمارة ان تهيئ للانسان الحيز الذي يعينه في ممارسة حياته نفسيا وجماليا واقتصاديا وصحيا، وظهر ذلك جليا مع الفتح الاسلامي لمصر، حيث كانت العمارة قائمة على خصائص المكان الطبيعية والسكانية والثقافية، ولم يحدث التدهور العمراني الا بعد ان بدأنا ننقل عن الغرب دون تفكير او انتقاء فيما يناسبنا، ونقلنا كل شيء بحذافيره باعتباره ابداعا جديدا، وتجاهلنا خصائص بيئتنا المناخية والاقتصادية والثقافية». سألناه: ما هو الشكل المعماري الذي يمكن ان نصفه بمجرد ان تقع عليه اعيننا بأنه «عمارة مصرية»؟ فأجاب تلميذ بيكار ورمسيس ويصا واصف وحسن فتحي:» العمارة منذ الحضارة المصرية القديمة وحتى عصر المماليك، هي عمارة مصرية خالصة تخصنا دون غيرنا ، والعمارة المملوكية في مصر تعتبر قمة ازدهار العمارة الاسلامية في العالم وفي مصر تحديدا، الى ان دخل الغزو التركي». وهنا يستدرك مازحا « لست ضد دولة محمد علي، فانجازاته معروفة بل نسبي يمتد له فهو خال خال جدتي، لكن المشكلة ان الاتراك نقلوا خبرات عمارتهم، حيث المعايير الاوروبية في التصميم التي تعكس نمطا مختلفا في العادات والمعيشة والاختلاط ، وتأثر المعماريون حينها بالمدارس الانجليزية والسويسرية والايطالية والفرنسية، واستمر ذلك على مدى النصف الاول من القرن العشرين، ثم بدأ التحول بعد الستينيات، حيث ظهور راس المال غير المثقف، وزاد التدهور في السبعينيات، الذي امتدت آثاره حتى وقتنا الحالي فيما يسمى خطأ بالعشوائية، حيث أسميها العمارة غير الرسمية، والتي تضخمت في غياب مخططات لتنمية الاقاليم في اطراف المدن، فأصبحت طاردة ، وتحول السكن بالنسبة لهؤلاء النازحين الى المدينة، الى مجرد «منامة» دون اي اعتبارات اخرى. سألناه مجددا: إذا أردنا ان نسترجع مصريتنا في العمارة، فهل يعني ذلك ان تعود «المشربيات» ؟ فأجاب بجدية : اذا كانت ستحقق العزل الصوتي والحراري، فما المانع، وليس بالضرورة ان تكون بنفس التصميم، ولو هضم المعماريون التراث جيدا سينعكس ذلك على خطوطهم وفكرهم لتعبر تلقائيا عن مصريتنا، وهناك تجارب للمعماريين عبد الحليم ابراهيم وصلاح زكي نفخر بها كثيرا، ومن قبلهما اساتذتي حسن فتحي ورمسيس ويصا واصف الذين دعوا الى احياء المدرسة المحلية في العمارة فظهر فكر معماري مرتبط بالاقتصاد والمناخ المحلي ، وسبقهما معماريون اوروربيون انتبهوا للتراث فحاكوه على مستوى الواجهات فقط كما في مبنى بنك مصر». ويستطرد صفي الدين « أهم ما يميز العمارة المصرية انها لا تعتمد على الزجاج، والبناء بمواد محلية غير مستوردة، ربما تكون مكلفة لكنها توفر الكهرباء حيث الاستغناء عن اجهزة التكييف من تبريد وتدفئة، كما تمنع الضوضاء الخارجية، بالاضافة الى انها تتماس مع وجداننا فنشعر بانتمائنا لها ، اما الآن فكل ما نراه منقول عن الغرب، ويعتمد على الابهار البصري فقط والكل يتسابق الى بناء البرج الاعلى، وهي كلها موضات الى زوال، ولو تجولنا ببصرنا في المدن الجديدة لن نجد اي ملمح محلي، سواء بالاستخدام المفرط في الالوان أو في الواجهات الزجاجية، واي زائر اجنبي لن يشعر بانه يرى شيئا مختلفا ،فالعمارة في اي مكان ينبغي ان تعكس ثقافته وخصائصه، فاذا نظرنا الى بيوت المرحلة المملوكية، يمكن ان نتبين نوع الشمس في هذه البيئة، ومناخها وعاداتها وتقاليدها الاجتماعية ، ولهذا نجد المستشرقين جاءوا وسجلوا بريشتهم أشكال العمارة لأنهم وجدوا انها تعكس حياة وثقافة مجتمع يختلف عن مجتمعهم. ما يحزن المعماري الكبير ليس فقط اختفاء العمارة المصرية وانما غياب العمارة الانسانية من الاساس في مصر، فيقول» كل مكان اصبح مشبعا ومحملا فوق طاقته بأضعاف مضاعفة،من كثافة سكانية وبنائية ومرورية، فالعمارة الانسانية هي التي تضمن للانسان الاستمتاع بوجوده في الحيز الذي يعيش فيه، ومدى السهولة في التنقل بين منزله ومكان عمله ، وحجم الضوضاء التي يتعرض لها ، وهو ما ينتفي تماما لدينا، فالكل يذهب الى عمله منهكا وعصبيا ، بسبب هذا التشبع الخانق .