من الطبيعى، ونحن نواجه، مع هذا العالم المعاصر المتغير، بدرجات متفاوتة، تحديات أفرزتها وتفرزها بإيقاع سريع يفوق القدرات التقليدية على اللحاق به ومتابعته، ثورة تكنولوجية فى المجالات كافة أن يكون التعليم والبحث العلمى القضية المركزية وأن يشكل إصلاحها وتطويرها وتحسين جودة مخرجاتهما المشروع القومى الأهم الذى يقع فى صدارة أولويات موجبات الحداثة ومتطلبات الأمن، فى مصر والوطن العربى على عمومه. تلك أولوية مركزية ينبغى أن تتعاظم وتتناغم مع التحولات والمتغيرات الحاصلة لدينا فى مصر ومن حولنا. فالتعليم المتميز، فى جميع مراحله وإختلاف مستوياته وتعدد مجالاته، والبحث العلمى التطبيقى المبدع المرتبط بواقع الأمة والمشغول بتعظيم مقومات أمنها، يمثل المشروع القومى الأهم لبناء الدولة العصرية، وأن أى محاولة جادة وموضوعية لتشخيص أحوالهما فى مصر سوف تواجه واقعا متهالكا تزايدت درجة تآكله ومعدلات إنحداره تدريجيا عبر أكثر من نصف قرن ليصل بهما إلى الصورة الحالية التى أفقدت الثقة فى منظومتهما، كما سوف تجد تعليما وبحثاً علمياً فاقداً القدرة، بحكم واقعهما، والترقيعات المتلاحقة فى سياساتهما، وتدنى مستويات النسبة الغالبة من مدخلاتهما ومخرجاتهما، على صناعة قوة ناعمة أو صلبة تقبض على تقنيات العصر ومتطلبات التنمية والتقدم، وتمتلك مقومات المنافسة والردع فى مجالاتها.. فماذا نتوقع من تعليم وبحث علمى بلا رؤية استراتيجية تمتلك أهدافا وسياسات وبرامج قادرة على التزاوج فى سباق متتابع مع ثورة تكنولوجية كاسحة فى المجالات كافة؟ وماذا نتوقع من تعليم غاص إلى أذنيه فى تزييف التاريخ وتسييسه، أو «أخونته» خلال العام الأسود من حكم الجماعة المتأسلمة، فى تجاهل فج ومغالطة لواقع أمة غابت عنها الحرية وزيفت فيها الديمقراطية وعز فيها العدل الاجتماعى والحكم الرشيد؟ وهل يمكن لما توارثناه من مناهج أصابها الجمود؛ أساليب تعليم ومصادر تعلم تجاوزها الزمن وفى خصام مع، وإنفصال عن، عالم العمل؛ معلم غير مؤهل فى الغالب الأعم، متكلس الفكر والثقافة، يرفض الجديد والتجديد، تدنت حقوقه ويشعر بالإجحاف والإحباط والمعاناة؛ نظم اختبارات وطرائق تقويم فلسفتها التلقين ومعيارها القدرة على الاستقبال والحفظ والمحاكاة؛ بنية متهالكة لمعظم مؤسسات التعليم والبحوث؛ مكتبات ومختبرات ومعامل إما فقيرة المقتنيات والتجهيزات أو معطلة أو أكلها الإهمال أو عاجزة عن التعامل مع تقنيات العصر؛ موارد وإمكانات محدودة ومتواضعة، وإدارة فى معظمها غير مؤهلة تفتقر إلى الأساليب الحديثة نتساءل هل يمكن لتعليم هكذا وبحث علمى أن يشكلا المكون الركيزة لصناعة هى فى الأساس «الصناعةالأم» الموارد البشرية، وأن يمثلا بذلك، وبحق، قاطرة التنمية والمصدر الأهم للأمن القومى بمعناه الشامل؟ إن حالة منظومة التعليم والبحث العلمى فى بلادنا خلال عقود الجمهورية الأولى، والعام الوحيد فى حياة قصيرة للجمهورية الثانية، تكشف عن غيبوبة ورجعية وجهالة أفقدتنا ريادة طالما تغنينا بها، هذه الريادة قد فرطنا فيها وتجاوزها الزمن ولم يعد فى الإمكان مجرد الحديث عنها على استحياء، وذهبت، بجدارة، إلى غيرنا، وانحدر تصنيف مستوى التعليم والبحث العلمى فى مصر درجات. لقد بات واضحاً أن مشكلة التعليم والبحث العلمى فى بلادنا تكمن ليس فقط فى تدنى تقدير أولوياتهما المطلقة بين المشروعات القومية النهضوية الكبرى، بل أيضاً، قبل ذلك، فى ثقافة المجتمع وعدم التعامل مع الإنسان بحسبانه مركز الجاذبية فى حركته ووسيلة التنمية وغايتها، وأنه بذلك يمثل المكون الركيز للثروة البشرية التى يتعين وضعها فى صدارة الاهتمام قبل وفوق الثروة المغطاة أو تلك الموروثة أو الطبيعية، كما أن البحث العلمى يمثل إحدى الأدوات الأهم لصناعة القوة والقدرة والنهضة. إن التوظيف النهضوى الشامل للتعليم والبحث العلمى فى مصر والوطن العربى يفرض علينا، سياسة ومؤسسات، حتمية ربطه بمتطلبات خطط التنمية الشاملة وعالم الأعمال من القوى البشرية المؤهلة والمدربة فى جميع المستويات النوعية والكمية للهيكل الصحيح للعمالة، وبمستلزمات تعظيم قوة الردع وإعلاء الأمن وتحصينه. كما يتعين أن ندرك أن مخرجات تلك الصناعة تمثل طاقة تصديرية هائلة للاقتصاد القومى، إضافة إلى الآثار الأمنية والسياسية والاجتماعية التى تتحقق بالتبعية لذلك... لقد بات حتمياً أن نستنهض كل طاقاتنا ونطورها ونوظفها بكل جدية وإصرار فى سعينا نحو مواكبة عالم تعولم تسيطر عليه وتوجهه ثورة تكنولوجية سريعة الإيقاع تدوس تحت أقدامها المتخاذلين، التعليم فيها والبحث العلمى قاعدة الانطلاق. لم يعد مستقيما، مع استهداف بناء دولة عصرية، الاعتماد على بنيان سقط وتهاوى، وعلى سياسات أفلست وقادت التعليم والبحث العلمى إلى تهلكة تدنت بهما إلى مستوى التندر والسخرية، وعلى قيادات تجاوزها الزمن وغير قادرة على استيعاب أبعاد ومعطيات العصر وما تفرضه من تحديات... وفى الوقت ذاته، لابد أن نصارح أنفسنا بكل شفافية وواقعية أن أى محاولة لإصلاح التعليم والبحث العلمى، سوف تظل محدودة الأثر، نسبية الفائدة، قاصرة عن بلوغ أى من أهدافها، ما لم توضع لهما رؤية وإستراتيجية وأهداف، ترقى إلى مستوى السيادية، تتمتع بقدر كبير من الثبات، ومحصنة عن الاجتهادات الشخصية أو النزعات الضيقة أو الفكر المغلق، مع تقنين الحق والسلطة فى تجويد أساليب التنفيذ وابتكار أفضلها وأقلها تكلفة.. إن القاعدة الذهبية التى يتعين الانطلاق منها لتحقيق الرؤية وخدمة الأهداف المنشودة هى أنه عندما يتحول التعليم والبحث العلمى إلى صناعة يحكمها قانون العرض والطلب، تنشغل بمتطلبات النمو واحتياجات التنمية ومقومات الأمن الوطنى والقومى، وهما ليسا كذلك عندنا، وليسا مجرد (خدمة) كما هو المفهوم الغالب لدينا، لهما مقوماتهما التى تلتزم بمعايير الجودة والإعتماد المعمول بها عالمياً، بما فى ذلك كفاية وكفاءة وتنوع مصادر التمويل وتوفير الإمكانات والارتقاء النوعى بمستواها، وتحسين أوضاع الأجهزة الإدارية والمعلمين وهيئات التدريس والباحثين؛ عندما نجعل منهما الاستثمار الأكثر مردوداً والمصدر الركيز للتنمية المستدامة، عند ذلك نكون قد أصبنا حقا ووضعنا هذه الصناعة السيادية فى إطارها الصحيح. إن تصحيح مسار التعليم والبحث العلمى فى بلادنا والارتقاء بمستواهما وتعظيم المردود منهما يستلزم ليس فقط تغيير ثقافة المجتمع وإعلاء تأثير دوره فى السياسات والتوجهات والرقابة، بل أيضاً الاتفاق على كلمة سواء بعيداً عن الرؤى المغلقة والنزاعات التى تتصادم مع معطيات العصر والحقوق والتطلعات المشروعة للإنسان وطموحات الوطن والأمة فى النهضة والتقدم.. لمزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى