مع التسليم بالمعلوم بالضرورة بأن مصر تحظي بمقومات أساسية للتنمية والنهضة, في مقدمتها مخزون حضاري لا ينازعها فيه أحد, وطاقات بشرية هائلة, وعقول مبدعة, محلية ومهاجرة, وموارد طبيعية, تمكنها, حال حسن توظيفها, أن تصنع لنفسها موقعا متقدما في هذا العالم المتغير. وتؤهلها لموقع الريادة كصانعة وداعية لمبادرات علمية تطرح بدائل وحلولا حقيقية لكثير من القضايا والمعضلات التي أفرزتها, أو زادتها تعقيدا, ثورة التقنيات والعولمة التي زلزلت القديم وهددت الموروث ونتساءل, ومعنا العقل والضمير الجمعي للأمة: لماذا تخلفنا عن الركب في عالم سريع الإيقاع ديناميكي الحراك ؟ ولماذا خرجنا, أو نكاد, من دائرة التنافسية في عالم يحكمه ويضبط إيقاعاته هكذا صراع ؟ ولماذا تأتي مؤسساتنا, وبصفة خاصة التعليمية منها والبحثية, خارج التصنيف المتقدم إقليميا ودوليا ؟ ثم لماذا يفتقد الإنسان المصري, في الغالب الأعم, القدرة علي المنافسة في أسواق العمل ؟ وإذا كان التعليم هو الحل والبحث العلمي هو الطريق فإن استمرار تزايد الطلب علي الأول, وما يستتبع ذلك من تضخم كمي في أعداد المخاطبين به, مع ضعف القدرة علي توفير الموارد والإمكانات, أفرز تعليما متخلفا عن العصر ومخرجات متدنية المستوي تفتقد, في معظمها, العلم والمهارات والأدوات التي تتطلبها التحولات النوعية في عالم العمل. ومن ناحية أخري, فإنه, بالإضافة إلي الافتقار إلي ثقافة البحث العلمي وترتيبه المتدني في سلم الأولويات واعتباره ترفا هامشيا, بدلا من التأسيس له كأولوية مركزية تمثل قاطرة التنمية والتقدم, لم توفر الدولة الحد الأدني من المخصصات والإمكانات التي يتطلبها هذا القطاع. وقد أدرك المشرع الدستوري المصري هذا الخلل وعالجه بتضمين دستور سنة2014, نصوصا حاكمة ألزمت الدولة تخصيص ما لا يقل عن4% من إجمالي الناتج القومي السنوي للتعليم العام الإلزامي, مع الإرتقاء بمستواه ليشمل المرحلة الثانوية, و3% للتعليم الجامعي, و1% للبحث العلمي, تتصاعد تدريجيا حتي تصل إلي المعدلات العالمية في تلكم المجالات, واستمرار تطويرها بمراعاة المعايير العالمية للجودة والاعتماد. لقد اختزلت قضية التعليم في مصر, وفي معظم الأقطار العربية, في موضوع الإتاحة أكثر منه التصدي لنوعية مدخلاته ومخرجاته. ففي مصر, مثلا, تتمحور المسألة حول موضوعين, يمثل أحدهما المدخل الطبيعي للآخر, وهما الثانوية العامة والالتحاق بالجامعة. في حين أن معظم أنظمة التعليم المتقدمة لا تجد ثمة علاقة حتمية بين الموضوعين, بمعني أن التعليم العام ليس, ولا يصح أن يكون, معمل تفريخ لمدخلات التعليم العالي والجامعي, ولا يجوز أن تنحصر أهدافه للإعداد لذاك المسار, بل يجب أن يأتي في مقدمتها المساهمة في تأسيس هوية الفرد وتأصيل قيم الإنتماء والولاء للوطن بكل مكوناته; التأكيد علي القيم الثقافية والروحية الأساسية التي تشكل الوجدان وتصقل السلوك; تعظيم قيم المواطنة والمشاركة والتسامح وقبول الآخر; التعليم الذي يتراجع دوره, ويفشل في مرحلته التأسيسية علي الأخص, في ترسيخ تلك القيم وتعظيمها, يفرز, بالضرورة, مخرجات هشة مرشحة للانحراف, يسهل علي جماعات وتنظيمات الجريمة المنظمة والإرهاب الأسود, التي لا هوية لها ولا دين ولا وطن, استقطابها وغسل عقولها وافتراسها وتجنيدها لخدمة أهدافها. السقطة الكبري نجدها في تعليم يعتمد علي أسلوب التلقين والاستذكار, وإغفال الاهتمام بصناعة العقل ومنهج التفكير; في منظومته التي أصابتها الشيخوخة والتفكك, والتي غابت عنها الرؤية وضاعت الأهداف وتعمل بغير تنسيق وعلي غير هدي, وفي إدارة غير مؤهلة في معظمها, مترهلة تجاوزها الزمن وفاقدة الصلة بمعطيات العصر, وغير قادرة, أو راغبة, في اللحاق بأساليب الإدارة الحديثة والإمساك بأهدافها. ونجدها كذلك في معلم يعاني, في الغالب الأعم, من قصور فاضح في التأهيل العلمي والتربوي, ولا يخضع للتدريب النوعي التأهيلي المستمر والمتجدد علي نحو منتظم, يتعامل مع التعليم بوصفه مهنة بل المهنة الأمس يلزم لمزاولتها الترخيص الدوري الذي يشترط لتجديده اجتياز حزمة من الاختبارات لبرنامج شامل لإعادة تأهيل المعلم في المراتب المختلفة للاستمرار في ممارسة المهنة وللترقي فيها. إن الفجوة بين مخرجات التعليم في مصر, وفي معظم الأقطار العربية, ومتطلبات خطط التنمية والاحتياجات التنافسية المتغيرة لعالم العمل, باتت مفزعة من الناحيتين, الأفقية, من حيث حجمها الكمي المتزايد عشوائيا, والرأسية, فيما يتصل بالنوعية ومجال التخصص ومستوي التأهيل. إن نظام التعليم ومنظومته, والبحث العلمي ومؤسساته, في مصر, علي الرغم من محاولات للإصلاح, تميل للعشوائية في معظمها;فإنها تفتقد الإمكانات; يعتريها خلل أقعدها عن النهوض بمسئولياتها الوطنية والقومية, وأفلتت منها الريادة التي عقدت عليها وأمسكت بها بغير منافس لعقود من الدهر. إن هذا الدور المصري المتردي مسئول ليس فقط عن تخلف التعليم والبحث العلمي, بل أيضا عن تراجع القدرة التنافسية للعمالة المصرية في أسواق العمل العربية, وأثر ذلك علي أحد أهم موارد الاقتصاد, وتزايد معدلات البطالة وتداعياتها. ولقد كان, ولايزال, من الآثار السلبية القاسمة للحالة المسماة, تزايد اعتماد تلكم الأسواق علي العمالة غير العربية, الآسيوية بصفة خاصة, مع ما لذلك من تداعيات أحدثت خللا في التركيبة السكانية, يلقي بتحديات تثير القلق وتهدد الهوية والأمان الاجتماعي في الأسواق الأكثر استيرادا لتلك العمالة, والتي تشكل في بعض دول مجلس التعاون الخليجي ما يتجاوز85% من السكان. لمزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى