من المعلوم بالضرورة أن التعليم المتميز في جميع مراحله واختلاف مستوياته وتعدد مجالاته, يمثل المشروع القومي الأهم لبناء الدولة العصرية, وأن أي محاولة جادة وموضوعية لتشخيص أحواله في مصر سوف تواجه واقعا متهالكا تزايدت معدلات انحداره تدريجيا عبر أكثر من نصف قرن ليصل به إلي صورته الحالية التي أفقدت الثقة في منظومته. كما سوف تجد تعليما فاقد القدرة, بحكم واقعه والترقيعات المتلاحقة في سياساته وتدني مستويات النسبة الغالبة من مخرجاته, علي صناعة ثروة بشرية تقبض علي تقنيات العصر وتمتلك مقومات المنافسة في مجالاتها... فماذا نتوقع من تعليم بلا رؤية أو استراتيجية تمتلك أهدافا وسياسات وبرامج قادرة علي التزاوج في سباق متتابع مع ثورة تكنولوجية كاسحة في المجالات كافة؟ وهل يمكن لما توارثناه من مناهج أصابها الجمود, وأساليب تعليم ومصادر تعلم تجاوزها الزمن وفي انفصال عن عالم العمل, ومعلم غير مؤهل في الغالب الأعم, متكلس الفكر والثقافة, يرفض الجديد والتجديد, ونظم اختبارات وطرائق تقويم فلسفتها التلقين ومعيارها القدرة علي الاستقبال والحفظ والمحاكاة, وبنية متهالكة لمعظم مؤسسات التعليم, ومختبرات ومعامل إما معطلة أو عاجزة عن التعامل مع تقنيات العصر, وإدارة في معظمها غير مؤهلة تفتقر إلي الأساليب الحديثة نتساءل هل يمكن لتعليم هذه أحواله أن يشكل المكون الركيز لصناعة هي في الأساس الصناعة الأم الموارد البشرية, وأن يمثل بذلك قاطرة التنمية والمصدر الأهم للأمن القومي بمعناه الشامل؟ إن حالة منظومة التعليم في بلادنا خلال عقود الجمهورية الأولي تكشف عن غيبوبة افقدتنا ريادة طالما تغنينا بها ساهمت لعقود طويلة في نشر التعليم وتطويره في العديد من الدول العربية الشقيقة, هذه الريادة قد فرطنا فيها ولم يعد في الإمكان مجرد الحديث عنها علي استحياء, وذهبت, وبجدارة, إلي غيرنا, وانحدر تصنيف مستوي التعليم في مصر درجات وفقدت مخرجاته القدرة التنافسية في أسواق العمل.....! لقد أضحت منظومة التعليم لدينا عاجزة عن استيعاب طبيعة وأبعاد ثورة تكنولوجية شاملة, يتحدد بها موقع الدولة والمجتمع في عالم سريع التغير شديد التنافسية. وكان طبيعيا, والحال كذلك, أن تجد تلك المنظومة نفسها ليس فقط خارج دائرة المنافسة, بل أيضا فاقدة الصلة بالمتطلبات التنافسية لأسواق العمل المستهدفة الأمر الذي جعل منها مجرد حاضنات تفرز أفواجا من العاطلين, إذ تجاوز متوسط نسبة البطالة في مصر21% من حجم القوي البشرية المؤهلة للعمل, وتتعاظم هذه النسبة بين الإناث, وتتباين جغرافيا بين أقاليم الجمهورية, كما تتفاقم بين خريجي مايسمي تجاوزا التعليم الفني, العالي منه والمتوسط, الذي تهالك وأكله الإهمال, وارتبط عندنا, خطأ وعلي خلاف موقعة المتقدم في معظم أنظمة التعليم وأسواق العمل, بضعف القدرة علي التعلم وتدني المستوي الاجتماعي للملتحقين به....! لقد بات واضحا أن مشكلة التعليم في مصر تكمن ليس فقط في تقدير الأولوية المطلقة لموقعه بين المشروعات القومية النهضوية الكبري, بل أيضا, وقبل ذلك, في ثقافة سادت عقود القهر والظلم الاجتماعي أهدرت أهمية الإنسان بحسبانه مركز الجاذبية في حركة المجتمع والدولة ووسيلة التنمية وغايتها, وأنه, بذلك يمثل المكون الركيز للثروة البشرية التي يتعين وضعها في صدارة الاهتمام قبل وفوق الثروة المغطاة, أو تلك الموروثة أو الطبيعية..... إن التوظيف النهضوي الشامل للتعليم يفرض علينا, سياسة ومؤسسات, حتمية ربطت بمتطلبات خطط التنمية الشاملة, في الدولة وعالم الأعمال, من القوي البشرية المؤهلة والمدربة في جميع المستويات النوعية والكمية للهيكل الصحيح للعمالة... وأن ندرك أن قوي بشرية هذا شأنها تمثل طاقة تصديرية هائلة للاقتصاد القومي, إضافة إلي الآثار السياسية والاجتماعية الأخري التي تتحقق بالتبعية لذلك... وأن نستنهض كل طاقاتنا ونطورها ونوظفها بكل جدية وإصرار في سعينا نحو مواكبة عالم تعولم تسيطر عليه ثورة تكنولوجية سريعة الإيقاع تدوس تحت أقدامها المتخاذلين والضعفاء, التعليم فيها والبحث العلمي قاعدة الانطلاق.... فإذا أضفنا إلي ذلك أننا في مصر نخوض, منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي, مرحلة تحول جذرية وإصلاح شامل نحو(1) تفكيك نظام الاقتصاد شبه الشمولي بكل آلياته لحساب اقتصاديات السوق بخصائصها وآلياتها, مع تقليص الدور غير التخطيطي للدولة, وتأكيد الدور الاجتماعي للرأسمالية الوطنية, ومراعاة معطيات العدل الاجتماعي بصفة عامة,(2) تزايد مشاركة المجتمع المدني في الأنشطة كافة,(3) السعي نحو بناء دولة ديمقراطية عصرية الشعب فيها هو مصدر السلطات والسيادة فيها للدستور والقانون إذا لاحظنا ذلك, فإن وظيفة التعليم ودوره المأمول في حركة التحول ومابعدها يصبح مركزيا في تأسيس النظام واستقراره واستمرار تجويده وتطويره.... وفي هذا السياق, لم يعد مستقيما الاعتماد علي بنيان سقط وتهاوي, وعلي سياسات أفلست وقادت التعليم إلي تهلكة تدنت به إلي مستوي التندر والسخرية, وعلي قيادات تجاوزها الزمن وغير قادرة علي استيعاب أبعاد ومعطيات الثورة الحاصلة في التعليم, فلسفة وأهدافا ومضامين وأساليب وإدارة وغيرها.... وفي الوقت ذاته, لابد أن نصارح أنفسنا بكل شفافية وواقعية أن أي محاولة لإصلاح التعليم, سوف تظل محدودة الأثر, نسبية الفائدة, قاصرة عن بلوغ أهدافها, مالم تضع الدولة المصرية للتعليم رؤية واستراتيجية وأهدافا, ترقي إلي مستوي السيادية, تتمتع بقدر كبير من الثبات, مستقلة عن المؤسسات والقيادات التعليمية, ومحصنة عن اجتهاداتهم الشخصية أو نزعاتهم الفكرية, مع منحهم الحق والسلطة في تجويد أساليب التنفيذ وابتكار أفضلها وأقلها تكلفة... ويعهد بالإشراف علي هذه المهام السيادية ومتابعتها وتطويرها إلي مجلس أعلي للتعليم يتمتع بالاستقلالية الفنية والمالية وتسند تبعيته التنظيمية لرئيس مجلس الوزراء.... إن القاعدة الذهبية التي يتعين الانطلاق منها نحو الدولة المنشودة هي أنه عندما يتحول التعليم إلي صناعة, وليس مجرد خدمة, لها مقوماتها, تلتزم بتطبيق معايير الجودة والاعتماد المعمول بها في أنظمة التعليم المتقدمة, بما في ذلك كفاية وكفاءة وتنوع مصادر التمويل, وتحسين أوضاع الأجهزة الإدارية وهيئات التدريس, وتخضع لقوانين العرض والطلب, وعندما نجعله الاستثمار الأكثر مردودا والمصدر الركيز للتنمية المستدامة, بدلا من أن يكون, كما هو الحال, مهدرا للموارد, معطلا للإنتاج, معوقا للتنمية ومهددا للأمن الاجتماعي, عند ذلك نكون قد أصبنا حقا ووضعنا التعليم في إطاره الصحيح, والإطار الصحيح أن التعليم في أصله حق وفي مضمونه صناعة وفي أهدافه خدمة إنمائية محورها الإنسان والمجتمع...... المزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى