أكثر من ثلاث سنوات مرت على هدم مبنى محافظة الإسكندرية جراء الحريق الذى أصابه يوم جمعة الغضب، والذى تسبب فى سقوط المبنى الضخم وهدمه فى ساعات قليلة .. ثلاث سنوات مرت ومازالت المحافظة كيانا معنويا لا وجود له على الأرض ، ومازال المحافظ يدير مصالح المواطنين الذين يقترب عددهم من 6 ملايين من أماكن متفرقة أو من مقر السكن بما لا يليق بمدينة مثل الإسكندرية،التى سبقت الكثير من دول العالم فى إنشاء « البلدية » أو «القومسيون البلدى » ... ثلاث سنوات ومازالت المعركة منصوبة بين وزارة الآثار ومحافظة الإسكندرية ، فلا المتحف اليونانى الرومانى حصل على الأرض ليضمها للمتحف ولا المحافظة أعادت بناء مبناها .. فقط تحولت الأرض الى أرض فضاء تثير الأسى وتبعث فى النفس الذكريات الحزينة ... فلمصلحة من ما يحدث فى الإسكندرية ؟
ويقول الآثرى ابراهيم درويش إنه مع اشتعال الثورة بدأت المظاهرات الغاضبة أمام مبنى المحافظة باعتباره رمز النظام الحاكم حتى كان يوم 28 يناير أو«جمعة الغضب» الذى إمتلأت فيه الشوارع بالغاضبين ، وتحولت الإسكندرية إلى ساحة حرب وتزامن ذلك مع الاختفاء التام للأمن، ليبدأ الهجوم على مقار الشرطة والحزب الحاكم و مبنى المحافظة الذى هجم عليه الغاضبون وانطلقوا بين المكاتب والقاعات يحطمون ويدمرون رمز الفساد - كما أطلقوا عليه - وقتها وتناسى الجميع أو أغفلوا أهمية هذا المبنى وتاريخه وما يضمه من كنوز فنية ووثائق عن الإسكندرية الحديثة وأوراق تحمل هموم ومصالح الناس، بالإضافة لمخطوطات أثرية نادرة ، وبين الثوار اندس آخرون للتخريب ونهبوا ما خف حمله من أثاث وتُحف قبل أن يضرموا النيران فيما تبقى. ويقول الأثرى أحمد عبد الفتاح إن لإنشاء بلدية الإسكندرية حكاية طريفة مفادها أن تجار الإسكندرية المصدرين إكتشفوا أن المبالغ التى ينفقونها على نقل بضائعهم داخل المدينة باهظة بسبب سوء حالة الشوارع وضيقها فتقدموا بطلب الى حكومة الخديو إسماعيل عام 1867 يطلبون منها فرض ضرائب عليهم لتنفقها الحكومة على إصلاح الشوارع وتعبيدها فرحبت الحكومة وقررت إنشاء « قومسيون بلدى مؤقت» يتألف من كبار التجار بدأ أعماله برصف شوارع مينا البصل والشوارع المؤدية الى ميدان محمد على ، وفى عام 1876 منحت الحكومة القومسيون إعانة قدرها 6000 جنيه سنوياً فتغير الاسم الى « القومسيون المختلط البلدى المؤقت للتجارة بالإسكندرية » ثم رأى التجار أنه ليس من العدل أن يتحملوا التكاليف وحدهم دون أن يساهم تجار الواردات وأصحاب الأملاك فيها فتم فرض ضريبة قدرها نصف فى المائة من قيمة البضائع وواحد فى المائة من قيمة العقارات ، وفى عام 1886 تغير الاسم مرة أخرى الى «قومسيون البلاط » نسبة الى التبليط حيث قام هذا المجلس بتعبيد الطرق باستخدام البلاط ، وقد صدر مرسوم بتأليفه فى 14 إبريل 1888 من 29 عضوا، 14 منهم تعينهم الحكومة نصفهم من المصريين و9 من تجار الصادرات و3 من تجار الواردات و3 من الملاك ، وفى يوم 5 يناير 1890 صدر أمر عال بإنشاء قومسيون بلدية الإسكندرية الذى عقد إجتماعه الأول فى بدروم المقر القديم بشارع رأس التين ورفض عروضا من ورثة « مانفراتو » لإستخدام سراياهم بميدان محمد على و سراى البرنس إبراهيم باشا ودائرة البرنس أحمد باشا حتى وصل الأمر الى مسامع الخديو فأصدر أمره أن تشغل البلدية دار « مدرسة التمثال » وهى المدرسة التى بنتها الجاليات الأجنبية للخديو إسماعيل اعترافاً بفضله فى إنقاذ الإسكندرية من فيضان 1874 وسميت بهذا الإسم لأنه رفض أن يقيموا له تمثالا وفضل بناء مدرسة . ويقول الدكتور محمد عادل دسوقى استاذ العمارة بالأكاديمية العربية للنقل البحرى إن مقر بلدية الإسكندرية ظل يشغل نفس المبنى منذ أواخر القرن التاسع عشر بشارع فؤاد ولكن لتزايد احتياجات البلدية أصبح المبنى قاصرا عن أن يفي بالغرض ، ونظرا لأن موارد البلدية كانت قاصرة عن إنشاء مبنى جديد فقد تقرر في 1954 اصلاح المبنى وترميمه وانشاء دور ثالث علوي وبلغ ما صرف عليه مبلغ 55000 جنيه، وبهذا تحول مبنى البلدية إلى مبنىً حديث وأنيق ...وفى عام 1960 صدر قانون الإدارة المحلية وتحولت «بلدية الإسكندرية» الى محافظة تعاقب عليها بعد ثورة يوليو 16 محافظا كان أولهم محمد مصطفى الديب (1952-1957) ، ولكن يبدو أن المبنى الأصلي الذي جرى تطويره وتعليته كما يقول الدكتور دسوقى كانت أسقفه من الخشب ، بينما اعتمد التطوير الخاارجي على الخرسانة، لذلك أتت النيران على المبنى من الداخل وانهارت كل طوابقه بينما ظلت واجهات الغلاف الخارجي صامدة لبعض الوقت، قبل أن تنهار هي الأخرى. ومع انهيار المبنى اختفى جزء كبير من تاريخ الإسكندرية ، بعمارته وتصميمه الداخلي وأثاثه ومستنداته ووثائقه وكتبه كما يقول الفنان عصمت داوستاشي الذى وصفها بأنها كانت «محرقة كبيرة للتراث الفني « الذى كان يضم مجموعة من أهم لوحات رواد الفن المصري الحديث أمثال محمد ناجي ، محمود سعيد ، سعد الخادم ،عفت ناجي ، سيف وانلي ، زكريا احمد، مارجريت نخلة ،و حسين بيكار وكانت أغلب هذه اللوحات فى حجرة المحافظ وعلي جدران المبني الداخلية ومعظم هذه الاعمال من اهداء الفنانين للمحافظه، لذلك لايوجد توثيق رسمي به. وبعد سقوط المبنى الذى يقع فى شارع فؤاد ظل مهجوراً لفترة حتى تعالت الأصوات بضمه للمتحف اليونانى الرومانى باعتباره إمتدادا طبيعيا له فأصدرت وزارة الآثار بياناً طالبت فيه الجهات المعنية بإيقاف أعمال الحفر التى كانت قد بدأت لتنفيذ مشروع مبني المحافظة وضمه للمتحف بعد ظهور شواهد أثرية في الأرض تشير الي وجود موقع اثرى مما يستوجب القيام بحفائر علمية للكشف عنها طبقا لقانون الآثار وفقاً لما صرح به وزير الآثار وقتها ، وعلى هذا الأساس قامت الآثار بمخاطبة المحافظة فلم تتلق رداً بخصوص إجراء حفائر فى الموقع ولكن تم ايقاف اعمال الحفر والبناء . وأكد المسئولون عن الأثار أن المشكلة فى هذه المنطقة مزدوجة فالمتحف اليوناني الروماني توقفت أعمال ترميمه وتطويره أيضاً بسبب غياب التمويل مما جعله أشبه بخرابه وجدران يُخشى تساقطها ولكن مسئوليه مازالوا يناضلون للحصول على أرض المحافظة لتكون إمتدادا طبيعيا للمتحف حال استكمال أعمال الترميم والبناء مما يستلزم مناشدة مجلس الوزراء بضم ارض مبني محافظة الاسكندرية المحترق للمتحف اليوناني الروماني في الاسكندرية وإعتبارذلك مشروعاً قومياً لمصر .. وقد تفقد الدكتور محمد ابرهيم وزير الاثار أنقاض المتحف وأرض المحافظة فى شهر مارس 2013 بغرض دراسة وضع المتحف وارض المحافظة المتاخمة له لتحديد القرار المناسب لها ورغم هذا تحاشى الجميع الخوض فى هذا الموضوع وكأنه سر حربى . ويقول الدكتور خالد عزب المشرف على مشروع ذاكرة مصر المعاصرة بمكتبة الإسكندرية ان المجتمع السكندري يرفض تماماً إعادة بناء مبنى المحافظة فى مكانها القديم، مشيراً الي ان الشركة المنفذة لمشروع ترميم المتحف وضعت تصميماً حديثاً يضم ارض المحافظة باعتبارها امتداداً للمتحف وحرمه ليتم توسيعة وعرض الاثار وتخزينها بشكل علمي ملائم وأضاف أن السبب الحقيقي لتأخر اعمال الترميم هو عدم وجود تمويل بسبب الظروف الاقتصادية الحالية وأكد أنه يتم التفكير حالياً في اقامة حملة تبرعات لتوفير السيولة المالية اللازمة لإعادة إفتتاح المتحف . وأضاف عزب أن اعادة مبني المحافظة في موقعه الحالي ليس ضروريا لان المحافظة تحتاج الي مساحة اكبر ويمكن اقامته في مكان أكثر اتساعا يتناسب مع اعمالها ويقلل ازدحام المرور في وسط المدينة وقد اقترح البعض إقامته فى منطقة سموحة أو فى مبنى الحزب الوطنى الذى احترق إبان الثورة . وكشفت الدكتورة منى حجاج استاذ الاثار اليونانية والرومانية في كلية الآداب جامعة الاسكندرية ونائب رئيس جمعية الاثار بالاسكندرية عن ان الوثائق والأدلة التاريخية والخرائط تشير إلي وجود معبدين هامين في أرض مبني المحافظة الأول معبد للإله «ساترون» إله الزراعة عند الرومان، والثاني معبد «لهوميروس» وأضافت حجاج أن إضافة أرض المحافظة للمتحف هى الفرصة الأخيرة لتوسعة المتحف الذى تأسس عام 1892 . وعلى الجانب الآخر فإن الأثار والمتحف والحفائر هو آخر ما يهم المواطن السكندرى الذى يبحث عن إنهاء حاجته وخدماته من المحافظة ولا يجد لها أى كيان أو تواجد على الأرض كما يقول سيد أمين المحامى الذى يقول إنه لا يعرف للمحافظة مقرا أو مكانا يمكن الوصول اليه فهو يسمع من يؤكد له أن المحافظ يلتقى بالمواطنين كل أسبوع فى أماكن يتم تحديدها مثل الشباب والرياضة أو حتى إستراحة المحافظ ولكنه هو يفضل أن يتم إعادة بناء المحافظة فى مكانها الذى يعرفه كل السكندريون . ويقول محمد سالم ( سائق تاكسى ) إنه يفضل أن يتم إختيار مكان خارج محطة الرمل أو أماكن الازدحام لإعادة بناء المحافظة ولكن يجب أن يتم ذلك بسرعة فليس من المعقول أن تعيش مدينة بحجم الإسكندرية بدون مبنى للمحافظة . الغريب فى الأمر كما تقول المهندسة نيفين حسين إن الإسكندرية تعاقب عليها منذ قيام ثورة 25 يناير ثلاثة محافظين هم الدكتور عصام سالم والدكتور أسامة الفولى وأخيراً اللواء طارق مهدى ولم يبت أحد منهم فى موضوع أرض المحافظة بل على العكس تحاشى الجميع الخوض فيه ومارسوا أعمالهم من أماكن متفرقة مما أرهق المواطن السكندرى الذى يبحث عن مكان المحافظ ليرفع اليه شكوى أو مظلمة أو حتى يبحث عن ورقة تائهة ... فهل يكون ذلك بسبب اعتقاد بعض المسئولين أن ضم أرض المحافظة للمتحف هو تعد على رمز الدولة ولذلك لابد من إعادة المحافظة الى مكانها ولو من باب العند . وفى النهاية تحول كيان محافظة الإسكندرية الى شبح يحط رحاله فى أى مكان يقبل أن يستضيفه فى انتظار قرار جرئ، إما بإعادة بنائه فى مكانه القديم أو بنقله الى أى مكان آخر ...ولكنه قرار يحتاج الى حسم .. فمتى يتم إتخاذه ؟