هناك من يسمع هذا الاسم فيستعيذ من الشيطان، وهناك من يعتبره الدونجوان محطم قلوب العذارى، وبالطبع هناك من لا يعرف عنه سوى اسمه معتقداً أنه اسطورة خيالية لا وجود لها ، وليس بين الثلاثة فريق مخطئ ، فالحكايات والقصص المتناثرة عن « كازانوفا » أكثر خيالاً من الخيال نفسه ، على أن مذكراته تُعد قطعة فنية رائعة بصرف النظر عن صدق ما جاء فيها من عدمه !، وسواء كان « جيوكامو كازانوفا المولود فى 1725هو صاحبها أو أن شخصاً أخر استغل الاسم وحضوره وشهرته وأقدم على تأليفها فإن جمالها وخفة ظل كاتبها هى الأبقى والأروع ، فمنذ السطور الأولى تجد نفسك أمام شخص طيب وديع لم يبحث عن المتعة ولم يكن شهوانياً كما يشاع !،بل كان يا ولداه ضحية النساء منذ صغره!، يحكى «كازانوفا » إنه كان يتمتع بذكاء كبير وأن أحد أساتذة الموسيقى والرسم الكبار اكتشف مواهبه المبكرة واصطحبه إلى منزله الجميل، وتولت شقيقته رعايته ونظافته لكنه فوجىء بالسيدة « تينا» التى تكبره بسنوات تقع فى غرامه : « فاجأتنى ذات صباح وأنا فى الفراش وكانت قد صنعت جوربين من نسج يديها وأرادت أن تقيسهما بنفسها، وفيما كانت تفعل لاحظتْ أن ساقىّ قذرتان فعمدتْ إلى تنظيفهما بنفسها وأخذت تتمادى فى النظافة ، فنهرتها حتى شعرتْ بالخجل فليس من المعقول خيانة أستاذى الذى يتولى رعايتى وتربيتى »! وهكذا يروى «كازانوفا» قصصاً أو أكاذيب لذيذة عن المغامرات العجيبة التى عاشها فكلما مضى فى طريق أو ذهب إلى آخر وجد إحدى الجميلات تغازله وتغرر به بينما يتمسك هو بالقيم والمبادئ رافضاً السقوط فى ألاعيب بنات حواء !!، ويسردعشرات الحكايات ليؤكد هذا المعنى !! ، بل ونجده يضيف إلى نفسه صفات المُحب والعاشق العذرى النبيل الذى يرفض استغلال البراءة ، فيروى أنه تعرف إلى عائلة ملكية مكونة من الأب والأم وابنتهما الفاتنة التى لا تتجاوز السابعة عشر بينما كان هو يخطو نحو الأربعين ، وفوجئ بالفتاة الصغيرة تُرسل إليه نظرات الحب والهوى كلما دخل قصر العائلة زائراً ، لكنه رفض مجاراتها فى ذلك واقترب منها ليقوم بدور الأب الذى تشعر بافتقاده !. ورغم المجهود الذى يبذله «كازانوفا» فى تلك القصة لاقناع قارئ مذكراته بأنه رجل برىء وطيب ومتيقظ الضمير ، إلا انه ينسى نفسه وهو يكتب هذا المشهد واصفاً تلك الفتاة : «كانت صغيرة شعرها فى لون الليل وعيناها تشعان لهبا وكان ثوبها القصير يكشف عن ساقين بدبعتى الالتفاف وقدمين دقيقتين وحكمتُ من النظرة الأولى بأننى أمام أبهى جمال رأيته فى حياتى «(!!) هل يعقل أن يكتب الأب الأربعينى تلك الأوصاف فى فتاة اعتبرها ابنته يا شيخ كازانوفا ! عموماً فإن أكاذيب كازانوفا اللذيذة تجاوزت هذا الحد ، فهو ليس رجلاً وديعاً ونبيلاً فحسب بل إنه «عاشق مسكين» !، ويروى قصة حب عاشها بكل جوارحه ولكنه يا ولداه لم يستطع الزواج من محبوبته بسبب ظروف درامية قاسية ،تبدأ تلك المأساة عندما تعرف على صديق جديد وتوطدت العلاقة بينهما وأصبحا لا يفترقان خاصة وأن والدة صديقه سيدة فاضلة رفضت العشرات من عروض الزواج وحافظت على احترامها لزوجها رغم انه تركها وفضل أخرى عليها، وكان لهذا الصديق شقيقة صغيرة وجميلة وتتمتع بأخلاق رفيعة رغم أنوثتها ، ووقع « كازانوفا» فى غرامها من أول نظرة وأصبح لا يستطيع الحياة بعيداً عنها وراح يكرر زياراته حتى يفوز بنظرة أوابتسامة منها ، لكنه بدأ يكتشف صفات الخسة والندالة فى هذا الصديق فكثيراً ما كان يدعوه «لتناول الغداء منفرداً بصحبة خطيبته وأحياناً كان يعرض عليه أن يراقصها ،وكان كازانوفا يفعل بحُسن نية وصدق ، لكنه لاحظ أن الصديق وخطيبته يستدرجانه للرذيلة طمعاً فى أمواله التى لم تكن تكفى سوى تكاليف تلك النزهات ،ولاحظ أيضاً أن الخطيبة تتعمد إظهار مفاتنها أمامه وتتفن فى إغرائه (!) ، ولم تسمح أخلاق «كازانوفا» بتلك التصرفات ( شوف إزاى ) ،وكثيراً ما فكر فى انهاء علاقته بهذا الصديق الوضيع ، لكنه لم يستطع لأنه كان سيضحى بالمحبوبة الصغيرة وبوالدتها الطيبة، وظل متمسكاً بالعلاقة خوفاً عليهما من السقوط فى دائرة هذا الوغد :«وأسفت على أن تكون مثل هذه العذراء الجميلة ، وأمها الوقور الطيبة على قرابة بوغد كهذا .. بيد أن انتباهى إلى هذه الحقيقة جعلنى أتيقن أن الشخص لن لن يمانع فى بيع اخته لمن يدفع أكثر ومن ثم فقد يوقع بها تحت رحمة عابث لا يرعى ذمة ولا ضميراً ،فى حين أننى لن أجسر على أن ألحق بها الضرر ،لأن حبى لها يمنعنى من إيذائها». ولا تتوقف أكاذيب كازانوفا اللذيذة عند هذا الحد بل ينسج قصة طويلة عن هذا الحب ويضيف عناصر الدراما والإثارة ، فقد انشغل بغرام تلك الفتاة عن بذاءات صديقه وخطيبته ، وبدأ يقترب منها أكثر ويكتشف مناطق جمالها وقرر أن تكون هذه العذراء زوجة المستقبل التى لن يجد مثيلتها فى العالم ، وتقدم لخطبتها ورحبت والدتها وطلبت انتظار موافقة «الأب» لانه كان مصراً على أن لا يزوجها إلا لتاجر كبير وبعد أن تبلغ الثامنة عشرة ،وحضر الوالد ورفض زواج ابنته وقرر إرسالها إلى أحد الأديرة لتقضى السنوات الأربع السابقة على سن الزواج هناك ! ،ويروى كازنوفا ما حدث له بعد تلك النهاية المأسوية لقصة حبه وكأنه قيس بن الملوح: «فأقبلتُ على الخمر والميسر حتى فقدت كل ما أملك وتركتُ المدينة وذهبت إلى ميلانو كى أحاول النسيان»!، وهناك وافق كازانوفا على العمل مع شاب يدير حلقة للمقامرة فى داره ليجد ما يشغله عن هوى محبوبته والتفكير فيها ، لكنه لم يستمر لأنه اكتشف أن الغرض الأول لهذه الحلقة هو ابتزاز أموال الناس (!!)، وهكذا تمضى حكايات ألف ليلة وليلة من قصص الهوى والغرام والهروب الدائم من السقوط فى الرذيلة وقد استهوت الحكايات كثير من المخرجين وتم إنتاج فيلم سينمائى شهير يحمل اسم هذا العاشق الشهير ولعب دوره الممثل الذى رحل شاباً « هيث ليدجر » بمشاركة الجميلة «سينر ميلر» والفاتنة «ناتالى دورمير» . ولا أخفيكم سراً فقد كنت أضحك وأنا أقرأ مغامراته وأتعجب من سعة خياله ومن مقدرته على ممارسة « الكذب اللذيذ» ....وليس الرجل الشهير بغزواته الليلية ..... ،فهاهو يقدم نفسه طيباً وساذجاً فى مقطوعة بعنوان « الخاتم» حيث صادفته إحدى الجميلات كما يحدث عادةً وطلبت منه أن يتسلى معها بلعب الورق أو « الكوتشينة » واشترطت أن يطلب المنتصر من المهزوم طلباً : وتعمدتُ أن أخسر فى المرة الأولى لأرى ما قد تأمرنى بعمله ، وكان العقاب الذى ابتكرته تلك الفتاة أن اختفت وراء الشجر واخفت خاتماً كان يحيط بأصبعها فى ملابسها ، وطلبت منه العثور على الخاتم !، وهنا يستيقظ ضمير «كازانوفا » فهذه الفتاة الصغيرة تستدرجه لكى يقترب منها والعياذ بالله ، انتبه لهذا الأمر فقرر أن يلقنها درساً فى الأخلاق فهى صغيرة السن وهو رجل ناضج ووجب عليه أن يتفهم ويرتدى ملابس الوعظ . ولا تملك بعد أن تقرأ « أكاذيب » كازانوفا الجميلة إلا أن تحترم اللغة السهلة التى استخدمها المترجم « حلمى مراد « الذى نجح فى إعادة تقديم كازانوفا باعتباره كاتباً قديراً استطاع صياغة مذكراته بأسلوب رفيع ولغة متدفقة ، فالرجل المعروف بغزواته ومغامراته الليلية لم يكن مجرد زير نساء حيوانى الشهوة بل هو رقيق وواسع الخيال ورائع حتى ولو كان يكذب ، أما لماذا ظهر على تلك الصورة فى المذكرات ومن هو حلمى مراد الذى نشر تلك المذكرات ضمن سلسلة رفيعة المستوى وعظيمة الشأن اسمها « كنوز التراث » فتلك قصة أخرى قد نتوقف عندها لاحقاً.