نتناول فى هذه الحلقة الثالثة كيفية التحول لمجتمع المعرفة والمقترح باختصار هو عقد مقايضة تاريخية تقوم على التحول عن التركيز المغلوط الحالى على الاستجداء والاقتراض لسد الحاجات الآنية وإثقال العبء على الأجيال القادمة بفوائد الديون واصولها إلى إيجاد مصدر جديد ومتجدد للنهضة الإنسانية فى عالم القرن الحادى والعشرين ألا وهو إنتاج المعرفة من خلال إقامة منظومة وطنية للابتكار والإبداع، تقوم على إصلاح جذرى لنسق التعليم فى مصر وإقامة البنية المؤسسية لدعم الابتكار والإبداع، بما يمكّن البلد من المنافسة على أرقى المعايير الدولية فى جودة التعليم ويؤسس لشخصية وطنية إيجابية ومبادرة تكون عمادا لنسق من الاقتصاد الوطنى متنوع مصادر القيمة والثروة، راقى الإنتاجية ودائب الترقي، ولمجتمع يجمع بين الأصالة وأفضل منجزات الحضارة البشرية، ويجدر التنبه إلى أن مثل هذه القوة الناعمة كانت عبر العصور هى المقوّم الأهم لمكانة مصر الإقليمية والدولية. فليس أفضل من التعليم الجيد متزاوجا مع منظومة قادرة للإبداع والابتكار كأداة للهندسة المجتمعية كما تعلمنا تجربتى سنغافورةوفنلندا اللتين سنشير إلى بعض من أبرز ملامحهما بإيجاز قبل التطرق لملامح خطة أولية لإقامة المجتمع المعرفة فى مصر. فى كل من سنغافورةوفنلندا أعيدت هندسة المجتمع والاقتصاد عدة مرات فى تاريخهما المعاصر، وكانت كل طفرة فى الاقتصاد والمجتمع تلى إعادة هندسة نسق التعليم ومنظومة الابتكار والإبداع. والاستخلاص المهم من هذه الاستراتيجية هو ان أفق تحسين وتجويد نسق التعليم ومنظومة الإبداع والابتكار افق مفتوح دوما، يُسعى إلى كماله دوما ولا يدرك أبدا، فهذه طبيعة الأفق المفتوح والمتجدد ابدا للمعرفة كمصدر متجدد للقيمة والثروة فى العالم المعاصر. لعل تاريخ تطور سنغافورة، التى تحقق الآن أعلى المراتب فى الإنجاز التعليمى فى المباريات الدولية لصيق الصلة بجهود دءوبة وممتدة عبر الزمن فى مجال إصلاح التعليم. قبل 1965كانت سنغافورة معتمدة اقتصاديا بشكل شبه تام على التجارة مع ماليزيا. وبعد الاستقلال كان عليها أن تؤسس لهوية وطنية متماسكة وان تنقل الاقتصاد من الاعتماد المبالغ فيه على المتاجرة إلى اقتصاد تصديرى حديث، وتطلب ذلك بناء نسق للتعليم يخدم غرض الأمة. فى هذا الموقف الابتدائى تشابه مصر سنغافورة. ولهذا قد تقدم خبرة سنغافورة دروسا مفيدة لا سيما فى مضمار إصلاح التعليم الذى استعمل كوسيلة متجددة دوما للهندسة المجتمعية الهادفة لنقل اقتصاد الجزيرة قليلة الموارد إلى قوة اقتصادية إقليمية بازغة. جرى التركيز على التعليم التقنى منذ ستينيات القرن الماضى مافرض على جميع الطلبة فى التعليم الثانوى تعلم مساقات تقنية. ولصوغ هوية وطنية جرى توحيد لغة التعليم وأقيم معهد راق لتعليم المعلمين فى 1973. ولكن نسق التعليم كان قد تراجعت كفاءته فاتسم بانخفاض الجودة وقل التوافق بين احتياجات سوق العمل وقدرات خريجى النسق التعليمى وهذا وجه شبه آخر يرشح تجربة سنغافورة لمصر. منذ 1978 عُدّل نسق التعليم ليتواءم مع تغييرات محورية مطلوبة فى الاقتصاد.ومع الانغماس الأعمق فى العولمة والانفتاح على الهند والصين، أدخلت مبادرات تعليمية جديدة لتحويل سنغافورة إلى مجتمع قائم على المعرفة يمكن أن يسهم بكفاءة فى فروع الاقتصاد كافة. وشملت المبادرات «المدارس المُفكرّة، المجتمع المتعلم» و«الخطة الشاملة للمعلوماتية والتعليم الوطنى» وفى 1999 اختيرت المدارس القديمة لإعادة البناء والتأسيس والتطوير. ولجذب اهتمام المجتمع بعملية الإصلاح التعليمى استحدثت مبادرة أصحاب المصلحة فى التعليم لدعم المجتمعات المحلية والأهل وخريجى النسق التعليمى للمدارس بهدف تمكين المتعلمين من التعلم والنمو وتحقيق أقصى إمكاناتهم. وتتيح لنا تجربة فنلندا دروسا مماثلة عن طفرات فى تحسين نسق التعليم ومنظومة الإبداع والابتكار نقلت الاقتصاد والمجتمع من حياة وقيم قطع اشجار الغابات إلى إضافة القيمة التقانية على المنتجات عالية التقانة. ونقدم فيما يلى مجموعة عناصر مقترحة بصفة أولية ليجرى تطويرها متضافرة فى استراتيجية متكاملة بناء على مرحلة تمهيدية لدراسة وتقييم مختلف جوانب منظومة المعرفة فى مصر، وليجرى تنقيح تصور الاستراتيجية بناء على نتائج الدراسة التمهيدية. المحور الأول للاستراتيجية هو تقييم جميع مراحل التعليم الأساسى والعالى تمهيدا لإصلاحها بغرض ترقية النوعية. ويعنى المحور الثانى بداهة بتقييم أجهزة البحث العلمى والتطوير التقانى الراهنة كشرط ضرورى لاقتراح سبل إصلاحها وتطويرها وفى النهاية،ينبغى أن تنشأ البنية المؤسسية اللازمة لدعم البحث العلمى والتطوير التقانى فى جميع قطاعات المجتمع فى الدولة يحسن أن يقوم مجلس أعلى لتشجيع المعرفة والابتكار برئاسة رأس الدولة إن أمكن. يتبعه صندوق لتدعيم المعرفة والابتكار. يقترح أن يقدم هذا الصندوق جوائز للمتفوقين فى جميع مراحل التعليم وللمبتكرين والمخترعين، أفرادا ومؤسسات. ويقدم الصندوق تمويلا لمشروعات البحث العلمى ومن المفضل أن يعلن الصندوق عن مجالات محددة لتمويل المشروعات البحثية يرى القائمون عليه أن لها قيمة استراتيجية لتقدم البلاد. بالإضافة، يسهم الصندوق فى دعم مشروع لاستنبات المهارات فى الطفولة المبكرة فى عموم البلاد، ومشروع لرفع نوعية التعليم فى جميع مراحله من خلال تطوير سبل التعليم (عن طريق البحث والعمل فى مجموعات بإرشاد المعلمين بدلا من التلقين) والتقييم (التراكمى متعدد الأوجه، وليس مجرد الاسترجاع فى امتحانات). تشجيع مشاركة التلاميذ المصريين فى المسابقات الدولية للإنجاز فى التعليم (تيمز). إنشاء وحدة للبحث العلمى والتطوير التقانى و المعرفة والابتكار فى جميع أجهزة الدولة وجميع مشروعات القطاع الخاص وفى مضمار العمل الأهلى يتعين إنشاء جمعية مصر الأهلية لتدعيم المعرفة والابتكار تستنسخ مهام صندوق تدعيم المعرفة والابتكارعلى صعيد المجتمع المدني. ومن الأهمية بمكان العمل الجاد على تدعيم التعاون العربى والدولى فى ميدان اكتساب المعرفة، بالتركيز على الصعيد العربى لمواجهة مشكلات المنطقة وتحديات التنمية الإنسانية فيها فى سياق من التكامل العربى الفعال. خاتمة يطيب لى ان أختتم هذا الموضوع بمقتطفات من الإمام على ابن ابى طالب رضى الله عنه تحت عنوان «العلم خير من المال»، صاغها منذ أطول من ألف عام، ببصيرة نافذة وبلاغة آسرة! العلم يحرسك وأنت تحرس المال. والمال تُنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق. وصنيع المال يزول بزواله. معرفة العلم دين يدان به، به يكسب الإنسان الطاعة فى حياته وجميل الأثر بعد وفاته. والعلم حاكم والمال محكوم عليه. هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقيّ الدهر فهل من مستمع؟ أو كما قال الإمام أيضا: «ما أكثر العِبَر وما أقل الاعتبار»! لمزيد من مقالات د . نادر فرجانى