بعد نحو خمسة أسابيع، وبالتحديد يوم 15 مارس المقبل، تنقضى ثلاث سنوات كاملة، على حمام الدم السورى، فى حرب مجنونة، بدأت فى صورة مظاهرات تنادى بالحرية، ثم سرعان ما تحولت الى صراع مسلح. وبؤرة جذب لكل من يستبيحون الدماء، ويروون بها عطش نفوسهم الخبيثة، حتى أزهقت من الأرواح عشرات الألوف، وشرد من الأحياء الملايين، وحتى الأطفال الذين يمثلون الأمل، والمستقبل فى أى أرض، قال عنهم الأمين العام للأمم المتحدة بان كى مون فى تقريره الأخير المقدم الى مجلس الأمن الدولى، ان أعداد القتلى منهم - على أيدى قوات النظام والمعارضة معا – لا يمكن احصاؤها! والآن، وبينما يصعب كثيرا التنبؤ بصورة واضحة المعالم للمستقبل، ربما يمكن القاء أضواء كاشفة سريعة على المشهد السورى الحالى، فى ضوء المعلومات القليلة التى تطفو على سطح بحور الدماء الممتدة. على الأرض، جاءت تصريحات وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى الأخيرة، لتكشف أن قوات الرئيس بشار الأسد تحقق تقدما وتحسن أوضاعها، الا أنها لم تنتصر، ووصف كيرى الوضع الميدانى الحالى بأنه "حالة من الجمود". ولعل مالم يقله وزير الخارجية الأمريكى، الذى يوصف بأنه من مؤيدى السياسات الأكثر حزما مع النظام السورى، هو أن هذه الحالة من الجمود فى الوضع الميدانى، ليست سيئة تماما بالنسبة لاستراتيجية واشنطن بشأن سوريا، فالمطلوب بالتحديد هو حرب طويلة، "لا غالب فيها ولا مغلوب"، وان وجد غالب أيا من كان، فانه سيخرج منهك القوى، لا يملك غذاءه أو دواءه أو قراره، وما يملكه فقط هو السلطة، فى دولة "أو ملامح دولة"، أعادتها الحرب الى الوراء سنوات وسنوات. لكن هذا التقدم للقوات النظامية، يأتى عبر "وحشية ملحوظة"، عكستها مؤخرا الأوضاع فى مدينة حلب على سبيل المثال، وهو ما دعا مصر التى تؤيد الحل السياسى للأزمة الى اصدار بيان شديد اللهجة على لسان وزير الخارجية نبيل فهمى، أكد فيه أن القاهرة تتابع ببالغ القلق التقارير التى تتناول الأوضاع المأساوية فى حلب، والتصعيد الكبير لأعمال القصف للمناطق المدنية باستخدام البراميل المتفجرة، مما أدى إلى استشهاد عشرات المدنيين خلال الأيام الماضية. وشدد فهمى على موقف مصر الرافض بالكامل لكافة أشكال استهداف المدنيين، وضرورة احترام أطراف النزاع لقوانين الحرب وقواعد القانون الدولى الإنسانى، مُديناً بشدة هذا التصعيد من جانب الحكومة السورية ومؤكداً أن إتباع هذا النهج خلال هذه المرحلة الحساسة، إضافة إلى ما يتسم به من وحشية ملحوظة، لا يخدم هدف تحقيق تسوية سياسية، تأمل مصر أن تقترب منها الأطراف خلال الجولة المقبلة من مفاوضات "جنيف2". وفى المقابل، وعلى صعيد قوات المعارضة، تبدو الصورة مأساوية، بعد أن ضرب زلزال تنظيم "القاعدة" البلاد، حيث دخل التنظيم الأراضى السورية فى البداية تحت راية قتال قوات النظام، ثم سرعان ما اشتبك فى معارك طاحنة مع فصائل المعارضة الأخرى، سقط خلالها فى أسبوع واحد من الجانبين نحو خمسمائة قتيل! وفى المناطق التى يسيطر عليها التنظيم، عمد الى اقامة "محاكم للتفتيش" طبق من خلالها أفكاره ، وبث سمومه وأحقاده، باسم الدين، والدين - من أفعالهم - برئ. وسياسيا، تبدأ بعد غد (الاثنين) الجولة الثانية من مفاوضات "جنيف 2" بين النظام والمعارضة، بعد أن اختتمت الجولة الأولى دون تحقيق أى تقدم، ودون أمل يلوح فى الأفق، فى ظل التباعد الكبير فى المواقف، بين نظام يريد "وقف الارهاب"، ومعارضة تركز على بحث "مصير الأسد". وبين هذا وذاك، ميدانيا وسياسيا، أضحت سوريا وطنا يضيع، ودولة بلا ملامح، أو ملامح دولة، أقصى أحلامها فى المستقبل المنظور هو "النموذج العراقى"، حيث الدولة المركزية الهشة، وشبه الحكم الذاتى فى أرجائها المختلفة. هو نموذج أقرب الى التقسيم لدويلات، لكن داخل اطار عام ضعيف. وحتى هذا النموذج لا تزال سوريا بعيدة عنه، لأنه حتى الآن "لا غالب ولا مغلوب" فى الحرب. واللافت للنظر مؤخرا، هو ما قالته النائبة الأمريكية الجمهورية دانا روراباشر فى اجتماع بمجلس النواب، عندما تساءلت عن سبب استمرار الولاياتالمتحدة فى امداد "العراق" بالمروحيات والطائرات دون طيار، للمساعدة في مواجهة القاعدة، وأضافت قائلة "لماذا تفكر الولاياتالمتحدة أنها ملزمة بأن تكون جزءا من هذا الجنون؟". واذا كان الأمر كذلك بالنسبة للعراق، التى تحققت فيها الأهداف الأمريكية منذ سنوات، على صعيد "الهدم والنفط"، فانه فيما يتعلق بسوريا، لا بأس - لدى الأمريكيين - من استمرار بعض الجنون، لبعض الوقت، حتى تتحقق الأهداف والاستراتيجيات أيضا، من خلال اطالة أمد الحرب لأقصى ما يمكن، وصولا الى النتيجة المرجوة، "هدم سوريا"، لارضاء صديق واشنطن الذى يراقب من قريب، فى تل أبيب!