لايزال الشعب المصري يردد إبتهالات النقشبندي ، نحن نحفظ « ماشي فى نور الله » ونستعيد بين الحين والآخر « مولاي إني ببابك » ، ولا تغيب عن سماوات تراثنا الصوتي المبهر تواشيح طه الفشني ، « إلي نوره سبحانه أتوسل » ويتحدث محمد عبد الوهاب ويشيد عبقرية سيد القراء وإمام المنشدين الشيخ علي محمود حين يؤدي « إن ميلاد الرسول المصطفي» ، وتظل أسماء مثل نصر الدين طوبار ، ومحمد عمران و الهلباوي والفيومي ، تعيش في وجدان الناس في القري والمدن ، ويتحلق آلاف العشاق حول الشيخ ياسين التهامي في الساحات ، وتمتلئ في الصعيد وبحري بالمحبين حين يستمعون إلي أمين الدشناوي أو أحمد التوني . أجيال رحلت وتسلمت منها أجيال جديدة مفاتيح المديح ، ومناجاة السماوات ، وعشق سيدنا النبي ، وستفرح أكثر لو علمت أن المبتهلين الجدد في مصر يضمون إليهم شباب في عمر الورد ، مثل صوت « مصطفي عاطف » 22 عاماً ، وغيره من شباب المنشدين الذين لفتوا الأنظار إلي أدائهم النقي الصافي كإبراهيم راشد ،وعلي الهلباوي ومحمد حسن الدح . ولم يكن ماحدث علي خشبة مسرح الهوسابير القريب من ميدان رمسيس منذ أيام سوى فصل جديد في حكاية مدرسة الإنشاد المصري الكبيرة ، أو فصل إعادة إحياء مدرسة الإنشاد المصري مرة أخري بشكل متطور ومنظم ، يجمع مابين أصالة رواد هذا الفن المصري العظيم ، وبين عصرية الحياة والذوق المتجدد للجماهير في فنون الأداء والسماع . وجاء الإعلان عن أول نقابة للإنشاد الديني في مصر في مسرح الهوسابير كحصاد لجهد كبير من عشاق ومحبي ومبدعي هذا الفن في كل أنحاء مصر من الدلتا إلي الصعيد ، نقابة تجمع الأجيال بمختلف أعمارها وتنوع طرق إنشادها . كان إطلاق أول مهرجان مصري منظم للإنشاد الديني يجمع نخبة كبيرة من المبتهلين الكبار و الصغار ، وفرحة لها طعمها غطت أجواء صالة المسرح ، نقلت حضرة المحبين من ساحة الحسين و حلقات مقامات السيدة زينب والسيدة نفيسة وسيدي زين العابدين إلي المسرح الذي شهد أعمال فرقة ثلاثي أضواء المسرح الشهيرة . وكل حديث المسرح يعكس السؤال : هل حقاً تعود مدرسة الإنشاد المصري إلي مكانتها من جديد ؟! هل يمكن أن تقدم مرة أخري فناً تميزت به مدرسة الفنون المصرية علي مدي يتجاوز المائة والخمسين عاماً ، سيقول لك الشيخ أحمد سعيد الدح ، أحد أهم الرجال الذين وقفوا خلف عودة الفن مرة أخري وإنشاء النقابة : مايميز عالم المنشدين في مصر منذ زمن طويل ، هو الحب الذي يجمع كل من يدورون في حلقاته ، ففي دنيا المداحين لايهم أين تكون ، في ساحة مسجد ، في قرية نائية ، أو مسرح كبير ، صحيح أن أجواء المكان تساعد لكن يبقي المهم ، هو مع من تكون ، فالمنشد يخلص النداء ، ويصل الناس بين أجواء السماوات والأرض ، و عالم المداحين المصريين له ملامح روحية يقل أن تجدها في مكان آخر ، لأنه يتحرر من ذاته ليكون في صحبة الكون في رحاب السماء وصحبة مدح سيدنا النبي ، وهو مايجعله صادقاً في وصوله إلي القلوب « . ويكمل الشيخ محمود ياسين التهامي نقيب المنشدين والمداح ابن المداح : لمدرسة الإنشاد المصري ، تقدير كبير في العالم العربي والإسلامي ، ويكفي أن أذكر لك ، أن مهرجان الجزائر في الإنشاد ، والذي عقد مؤخرا أكد ذلك ، حين صعد إلي نهائي المهرجان منشد إيراني ، وكان ضروريا اختيار منشد عربي ليكون أمامه في الليلة الأخيرة ، ولم تفعل الجزائر سوي أنها طلبت من الوفد المصري أن يكون هو ممثل العرب في هذه الليلة ، إيماناً منها بأن مصر هي رائدة الوطن العربي في فن الإنشاد الديني ، وأن هذه المدرسة لها امتداد كبير يأتي من تميز مدرسة القراءة القرآنية المصرية الكبيرة ، ومن عطاءات مدارس المقامات الموسيقية العربية ، وقصائد المتصوفين الكبار في العالم كمحيي الدين بن عربي ،وعطاء الله السكندري وجلال الدين الرومي و عمر بن الفارض المصري وغيرهم . أجيال كثيرة من المبتهلين المصريين وجماهير هذا الفن احتفلوا في الهوسابير بميلاد جديد للإنشاد الديني المصري ، وأسماء من كبار الرواد لهذا الفن رحلت، جاء أبناؤهم وأحفادهم إلي ليالي المداحين ، حضر الشيخ محمد محمود الطبلاوي ، وأبناء الشيخ النقشبندي ، والشيخ نصر الدين طوبار والشيخ محمد رفعت وغيرهم ، واكتمل بهم الفرح بميلاد النقابة والمهرجان المصري الأول ، وهو ماجعل المنشد الشاب علي الهلباوي ابن الشيخ الراحل محمد الهلباوي يعبر عن فرحته وتنزل دموعه وكأن أباه قد عاد ، وينضم إلي جماعة المنشدين علي المسرح ، ويرد عليه الشيخ أحمد سعيد الدح : لقد اكتملت «السبحة » ، ويقصد حضرة جماعة المنشدين . وفي الليلة الختامية كانت مفاجأة المهرجان ، صوت العاشق الكبير « ياسين التهامي » ، وازدحم المكان بجمهور كبير جاء من كافة أنحاء مصر ، من الصعيد وأسوان ، من الواحات ومحافظات القناة ، من سيناء والدلتا ، وعلي إنشاد الشيخ ياسين كانت حلاوة الذكر ، وروعة مدح الرسول ، فالأيام توافق ذكري ميلاده ، ولن تتعجب حين تري العائلات المسيحية المصرية في الصالة تهتف وتردد التواشيح مع المبتهلين وفي صحبة ياسين التهامي ، وليس غريباً فمدرسة الإنشاد المصري ، قديمة وتجمع المسلمين والأقباط في مصر علي أرض واحدة ، ولاعجب أنها تنطلق من نفس طرق الأداء ، ونفس قائمة المقامات الموسيقية ، ولها روح واحدة . عودة إحياء مدرسة الإنشاد المصري ، حدث كبير في مصر ، يستحق أن نلتفت إليه ، وهو ميلاد جديد لأجيال تواصل رحلته الطويلة .