عاقتني نزلة برد مفاجئة عن الخروج إلي ميدان التحرير, للاحتفال بالذكري الثالثة للخامس والعشرين من يناير الذي كان ثورة شعبية بحق, صحيح أن الثورة بدأت بآلاف معدودة من الشباب الوطني الثائر الذي تنادي إلي الثورة والتجمع في ميدان التحرير بواسطة أجهزة الاتصال الحديثة, وعلي رأسها الشبكة العنقودية, وبالفعل تشكلت نواة الثورة من أبناء الطبقة الوسطي المصرية الذين تعلموا تعليما حديثا, أتاح لهم استغلال تكنولوجيا الاتصالات الحديثة. وكان هؤلاء قد خرجوا إلي التحرير لتحدي شرطة مبارك القمعية في عيدها. ولكن ما إن تجمعت آلاف معدودة من هؤلاء الشباب حتي تحولوا إلي كتلة صلبة جذبت إليها الآلاف المؤلفة من جموع الشعب المصري التي اشتعلت بالغضب علي نظام فاسد, لم يتورع عن عقد زواج غير شرعي بين الثروة والسلطة, ولم يراع العدل الاجتماعي في علاقته بالمواطنين, فقمع الحريات, وداس علي الكرامة الإنسانية للمواطنين الذين تحولوا إلي معذبين في الأرض, افتقدوا أبسط أشكال العدل, وحرموا حتي رغيف الخبز, وتكالبت عليهم براثن الجهل والمرض, وما من صدي لآلامهم عند النظام الذي أصم سمعه عن شكاواهم التي أضيف إليها كارثة تزوير الانتخابات, والتمسك بمؤامرة التوريث التي أضافت إلي نظام مبارك أعدادا كثيرة كارهة له. ولذلك ما إن تجمع آلاف الشباب الغاضب في ميدان التحرير حتي انتقل غضبهم إلي غضب الشعب الذي كان ينتظر المبادرة, فخرج في ثورة شعبية هائلة, وتحولت الآلاف التي تجمعت في التحرير إلي ملايين هادرة. احتشدت في ميدان التحرير, وغيره من ميادين مصر, من أقصي الشمال حيث الإسكندرية, إلي أقصي الجنوب حيث توجد الأقصر. واكتملت لثورة الخامس والعشرين من يناير ملامحها حول الشعارات التي رفعتها: العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ولكن ثورة الخامس والعشرين من يناير سرعان ما هبط عليها الإخوان المسلمون كالجراد الذي يأكل الأخضر واليابس, وبعد مخايلات الزهد في السلطة, وادعاء المطالبة بالأهداف نفسها, أخذوا في سرقة الثورة, وساعدهم علي ذلك اتفاقهم السري مع الولاياتالمتحدة التي قررت التحالف معهم ضد إرادة الشعب المصري, في موازاة الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها قيادة المجلس الأعلي للقوات المسلحة, وهو الأمر الذي انتهت تداعياته السلبية إلي وصول جماعة الإخوان إلي حكم البلاد, ووصل محمد مرسي إلي سدة الرئاسة, بعد أن قدم وعودا كاذبة لعدد من رموز القوي الوطنية التي صدقته, وانخدعت بوعوده, ومعها جماعات شباب ثوري ظنته حليفا لها, فلم يجدوا منه ولا من جماعته سوي احتكار السلطة بدلا من مشاركة كل القوي الوطنية فيها, كما وجدوا أن الأخونة مبدأ يعلو فوق مبدأ المواطنة, وكذلك إشاعة التمييز الذي أدي إلي احتقان طائفي, مقرون بحرق الكنائس, وتبدد أحلام الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. واستبدل نظام مرسي الذي هو أدني بالذي هو خير; فكان لابد من الثورة الشعبية عليه, وتحولت الملايين التي رجت فيه خيرا إلي ملايين رافضة لنظامه القمعي وخروجه علي المبادئ الدستورية. وكما كان الجيش منقذا في الخامس والعشرين من يناير2011, كان الجيش أيضا- منقذا في الثلاثين من يونيو.2013 وسرعان ما تشكلت خريطة الطريق, وحل دستور الشعب محل دستور الإخوان, وحصل علي نسبة موافقة شعبية غير مسبوقة, ولم يكن استفتاء علي الدستور بنعم فحسب, وإنما كان استفتاء علي الإيمان بالجيش الوطني الذي وقف للمرة الثانية مع الشعب, وذلك بقيادة جديدة تعلمت من أخطاء القيادة السابقة. وكان من الطبيعي أن تعود جماعة الإخوان إلي طبيعتها الإرهابية, وتخلع عنها الأقنعة الخادعة, فتظهر الوجه البشع للإرهاب. ويا له من فارق بين موقف مبارك الوطني الذي تخلي عن الحكم عندما وجد الثورة عارمة ضد نظام حكمه, فآثر الرحيل, حفاظا علي حياة أبناء وطنه, في موقف أثبت وطنيته, رغم كل أخطائه الكارثية. أما مرسي والإخوان فما أسرع ما انقلبوا إلي إرهابيين وسفاحين, وبدأوا حربهم الخسيسة, وجرائمهم الوحشية التي تصاعدت, مستغلة الإرادة الضعيفة الخائرة لحكومة الببلاوي التي لا نعلم إلي الآن من الذي اختارها. ولا تزال كوارث ضعف هذه الحكومة تتتابع, ومع تتابعها تزداد وحشية الإخوان التي أجبرت هذه الحكومة أخيرا علي الاعتراف بأنها جماعة إرهابية, وأعلنت ذلك تحت ضغط شعبي كاره لوجودها. ونتيجة هذا الضعف, وصل إرهاب الإخوان إلي ذروته في الرابع والعشرين من يناير الحالي; حيث تم تفجير مديرية الأمن في باب الخلق بعربة تحمل ثلاثة أرباع طن من المتفجرات, فضلا عن تفجير مناطق أخري في الدقي والهرم. وكان الهدف من وراء ذلك ترويع المواطنين وإظهار الحكومة بمظهر العاجز عن حمايتهم, ومن ثم إصابة المواطنين بالذعر والرعب اللذين يمنعان أبناء الشعب من الخروج إلي ميدان التحرير وغيره من الميادين, للاحتفال بذكري الخامس والعشرين من يناير, ولكن جرائم إخوان الشيطان الإرهابية لم تفلح إلا في إثارة روح التحدي عند أبناء الشعب الذين أسقطوا رئيسين, وقاموا بثورتين متتاليتين, فخرجت الملايين الهادرة إلي ميدان التحرير والمدن الكبري, كالسويس والمحلة والمنصورة والإسكندرية, وكلها تهتف بالشعارات التي لم يتحقق منها شيء في عهد الإخوان. وكان هذا الخروج تحديا للإرهاب الذي لم يتوقف يوم الخامس والعشرين الماضي, ولكن ذلك لم يمنع الملايين من إعلان إيمانها بالمستقبل ورفضها الحاسم جماعة إخوان الشيطان الإرهابية. ويقيني أن خروج هذا الشعب الذي قرر تحدي كل القوي الشعبية قادر علي أن يمضي بنجاح في تنفيذ خريطة الطريق إلي نهايتها الواعدة; فقد عقد هذا الشعب العزم علي انتزاع مستقبله المشرق من براثن الإرهاب. ومن المؤكد أن هذا الخروج المتحدي لهم يحمل أكثر من دلالة. أولاها العزم علي المضي إلي النهاية, وإفشال كل خطط الإخوان ومؤامرات إرهابهم التي يدعمها تنظيم دولي وقوي أجنبية خاب ما رسمته لمستقبل مصر. ورغم كل الدعم المالي الذي تجده جماعة الإخوان الإرهابية من مجرمي الداخل والخارج, فمن المؤكد أن أمواج الثورة المصرية الهادرة سوف تجرف في طريقها المتصاعد كل مؤامرات الخارج والداخل. والدلالة الثانية تتعلق بثقة الشعب في قواته المسلحة وجيشه الذي برهن علي وطنيته, عندما وقف مع الشعب وقت المحنة. ولذلك تحول قائد هذا الجيش إلي بطل قومي, أخذ ملامح المنقذ والزعيم, ووجدت فيه الملايين التي رفعت صورته في كل ميادين مصر رئيسا محتملا, وقامت بترشيحه لرئاسة الدولة ودعوته إلي الترشح, محملة إياه بذلك عبئا بالغ الثقل والصعوبة, فهذه الملايين التي ترفع صورة السيسي لا تفعل ذلك محبة له فحسب, وإنما مطالبة له بالاستجابة إلي رغبتها في قيادته, أملا منها فيه, واشتراطا عليه أن يعاهدها مخلصا علي تحقيق مبادئ25 يناير-30 يونيو التي لم تتحقق بعد, أما الدلالة الأخيرة فهي المطالبة المضمرة والمعلنة برحيل حكومة الببلاوي العاجزة, وأخذ العبرة من عجزها وضعفها حتي لا تأتي مثلها حكومة مشابهة في العجز وقلة الحيلة وضيق الأفق. وهنا يحضرني قول الشاعر: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر لمزيد من مقالات جابر عصفور