قام منهج الأزهر في جانب الفقه الإسلامي في الأساس علي التعدد, ففتح أبوابه لدراسة المذاهب الفقهية التي تلقتها الأمة بالقبول, وجعل من ساحاته وأروقته مجالا لدراسة هذه المذاهب جميعها, وما قصر الدارسين فيه علي واحد منها دون الآخر, في فهم ووعي وإدراك لمقاصد الشرع وروحه وقواعده, التي تقضي بأن الدين يسر, وأنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه, كما تقضي بأن كل مجتهد مصيب, وأن المخطئ معذور بل ومأجور, وأن اختلاف العلماء رحمة للأمة, وأنه لا إنكار علي المخالف فيما اختلف فيه العلماء, وإنما ينكر في الأمر المتفق عليه من الأمور القطعية التي لا مجال فيها للاجتهاد. فكان الدارسون في الأزهر الشريف علي مر الزمان يتشربون هذه القواعد والأسس, وتتكون من خلالها شخصياتهم العلمية وملكاتهم الفكرية, ويتربون من خلالها علي فهم مساحة المناقشة والخلاف العلمي, وأن مجال ذلك وموضعه لا يتعدي ساحات الدرس, وفي المقابل تكون السماحة وقبول الآخر والتيسير علي الخلق في إفتاء الناس وإرشادهم إلي الأحكام الشرعية فيما يجد في حياتهم اليومية. وقد انتهج الأزهر الشريف في دراسة الفقه الإسلامي منهج التدرج, الذي انتهجه في جميع دراسته, فلا يسمح لطالب أن يهجم علي المطولات أو الموسوعات, أو يدرس الشروح والحواشي, إلا بعد أن يكون قد تشبع بما قبل ذلك, من حفظ المتون, ودراسة المختصرات, التي تكون الأرضية العلمية, التي ينبني عليها ما بعدها, ثم يتدرج بعد ذلك إلي المتوسطات, التي تمثل البداية في تكوين الملكات, وصقل الشخصية العلمية, ثم ينطلق بعد ذلك إلي رحابة المطولات, وما فيها من دقائق وتفاصيل, ثم ينطلق إلي آفاق أوسع وأرحب, بدراسة الآراء المختلفة, والمقارنة بينها, ومناقشة أدلتها, والترجيح بينها, ولا تقف الدراسة هنا عند حدود المذاهب الأربعة, بل يضم إليها المذاهب الفقهية الأربعة الثانوية, والتي هي: الزيدية والإمامية والإباضية والظاهرية, والتي يجتمع منها ومن المذاهب الفقهية الأربعة الكبري( الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة) مجموع المذاهب الثمانية, التي يتعبد بها جميع المسلمين علي ظهر الأرض, مع بعض الأقوال والآراء المنقولة عن المجتهدين الذين لم تنتشر مذاهبهم, كالإمام الأوزاعي والليث وداود وغيرهم من المجتهدين. وعلي هذا مضت سنة الأزهر الشريف, أنه يراعي التدرج والعمق في تكوين الشخصية العلمية لأبنائه, ويراعي واقع الأمة وظروف حياتها, ولا يحمل الناس علي رأي واحد. ومن مجموع ما سبق وغيره من سمات المنهج الأزهري تكونت الشخصية الأزهرية بوسطيتها المشهودة, وسماحتها, مع عمقها وثقلها العلمي, فلا تري أبدا أزهريا- مستنيرا بهذا المنهج- يتبني الآراء الشاذة, أو ينشر في الناس ما مجاله حلقات الدرس, أو يكفر غيره من المخالفين, طالما لم يكن الأمر في دائرة القطعيات. ومن هذا المنطلق والوعي والفهم رأينا نماذج كثيرة لاحترام كبار علماء الأزهر الشريف لأقوال غيرهم وتواضعهم حال أن رفعت إليهم مسألة, أو طلب منهم الجواب عن فتوي, فمن ذلك واقعة مسجلة في السجلات الرسمية لدار الإفتاء المصرية, لسؤال ورد من الهند, لفضيلة الإمام محمد عبده, حال توليه إفتاء الديار المصرية, فلما وجد السؤال مبدوءا بقول السائل: ما يقول السادة العلماء في... ووجد موضوع السؤال في موضوع بالغ الأهمية( وهو بالمناسبة موضوع تكفير المسلمين وتضليلهم وإخراجهم من دائرة أهل السنة والجماعة), لما رأي الإمام رحمه الله هذا, رأي أن يجمع لهذه الفتوي العلماء, فقال في بداية الجواب ما نصه:... والسؤال موجه إلي العلماء, لا إلي عالم واحد, كما هو مذكور في نصه, فرأيت أن يكون الجواب عليه محتويا علي مقال كثير من أفاضل العلماء, وقد انتدب حضرة حامل السؤال إلي كتابة ما يجده من الكتاب والسنة, وأقوال علماء الحنفية في موضوعه, وأرسلت بنسخة من السؤال إلي حضرة الأستاذ شيخ الحنابلة في الجامع الأزهر, فورد منه ما رأي أن يجيب به, وكلفت جماعة من أساتذة الشافعية والمالكية أن يكتبوا ما يعتقدون أنه الحق في جواب السؤال, فكتبوا, وأشبعوا جزاهم الله خيرا, وإني أبتدئ بما أجاب به أفاضل الشافعية والمالكية بعد ذكر السؤال, ثم أثني بجواب شيخ الحنابلة, وأختم بمقال الأستاذ الحنفي, ثم بما يعن لي أن أضمه إلي أقوال جميعهم, والله الموفق إلي الصواب وهو الهادي إلي الصراط المستقيم.... والأمثلة والمواقف المشهودة المعروفة لعلماء الأزهر أكثر من أن تحصي, ولا عجب, فقد كانوا خير خلف لخير سلف, فقد مضي الأئمة والعلماء علي احترام المخالف, وعلي المناظرة لطلب الحق لا للجدال الممقوت, وماقولة الإمام الشافعي( ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطئ, وما في قلبي من علم إلا وددت أنه عند كل أحد ولا ينسب إلي) ببعيد. ومن هنا صار الأزهر الشريف ملجأ للأمة كلها, لا في مصر وحدها, بل في جميع أنحاء العالم الإسلامي, ونحن الآن في أمس الحاجة إلي المحافظة علي هذا المنهج المبارك, وهذا هو الدور الذي قام به الأزهر الشريف ولا يزال في تجميع الأمة الإسلامية وتوحيد صفوفها, بدلا عن دعاوي التفرق, وفتاوي التكفير والتفسيق والتبديع والتضليل. لمزيد من مقالات د شوقى علام