بعد إقرار الدستور, ينفتح المجال السياسي المصري أمام أفق مستقبلي واعد. لكنه أفق مشروط; وشرطه الأساسي هو تجاوز آفات التكوين العضوي للنخبة السياسية والثقافية المصرية, والتي برهنت علي إخفاق تاريخي مزمن. وانعكس هذا الإخفاق علي مسار الحركة الوطنية والقومية, فإذا بها غير قادرة علي مواصلة السير عبر الزمن لتحقيق الأهداف بعيدة المدي للمجتمع العربي في إطاره العالمي الراهن. لهذا, تبدو البلاد وكأنها تسير في حلقة مفرغة بفعل المحتوي الفارغ لنخبة عاجزة تدور حول نفسها بلا انقطاع تقريبا, علي اختلاف تلويناتها السياسية, من مدنية ودينية, غير قادرة علي الاتصال الحي بمجتمعها الحقيقي, وعلي بعث الأمل في المستقبل, بث الثقة في الأرواح. هي قصيرة النفس, سريعة الغضب, مجوفة فكريا وسياسيا, لاتقارب شأنا مهما من شئون البلاد والعباد, إلا ونشرت سحب اليأس المطبق من حوله, ثم تعثرت لتجر الجماهير الغفيرة من خلفها نحو ضياع جديد. لا وإننا في انتظار فجر جديد, ونخبة جديدة حقا, ونمط قيادي غير مسبوق, وإن بلادنا العربية, بما فيها المصرية, والحمد لله, حبلي بكل جديد, وهي في حالة انتظار دائم لفعل ثوري غير موجود, وسوف يوجد بحكم الضرورة التاريخية-الإنسانية. ولن نرجع إلي الجذور البعيدة لمظاهر الفشل الماثل أمامنا للنخب السائدة بشقيها: المدني, و الديني, وإنما نكتفي بما هو جلي بين ظهرانينا اليوم. ولنبدأ بأهم مظاهر الفشل, وفي مقدمتها أمران مختلفان: أولهما, الفشل في ميدان بناء الإطار التنظيمي الجماهيري للحركة السياسية المصرية في قطاعها( المدني), يمينا ويسارا, وثانيهما, فشل في مجال القدرة علي إدارة الدولة و هندسة المجتمع, فيما يتعلق بالقطاع( الديني) من الحركة السياسية, أو ما يسمي بتيار الإسلام السياسي, وهو أقوي قطاعات هذه الحركة علي كل حال. الأمر الأول ينصب إخفاقا علي عملية تأسيس المجال السياسي للوطن أو, اختصارا, بناء الوطن عبر بناء صيغة التوافق المجتمعي الفعال, والمسمي لدي بعض علماء السياسة المقارنة بعلاقة التكامل أو الاندماج. والأمر الثاني ينصب إخفاقا علي عملية بناء مؤسسي, يتمتع بالفاعلية وبالاستمرارية وبالطابع الموضوعي الذي تكتسبه بيروقراطية منظمة في إطار بناء الدولة الحديثة. وبالعودة إلي الجذور التاريخية لهاتين الظاهرتين, مع البدء بأولاهما, فإننا نجد أن أول محاولة منظمة كبيرة لبناء صيغة سياسية جامعة, علي المستوي الشعبي, في تاريخ مصر الحديث, هي تجربة إقامة كيان تحت مسمي( الحزب الوطني) إبان الثورة العرابية في ثمانينات القرن التاسع عشر, ثم معاودة تأسيس هذه الصيغة علي يد الشاب مصطفي كامل فخليفته محمد فريد, في مطلع القرن العشرين, فيما سمي بعد ذلك( الحزب الوطني القديم). غير أن هذه المحاولة وما سبقها, بقيت في الإطار النخبوي الضيق لقادتها من المثقفين, وكان أبرز من تجاوز هذه المحاولة هو سعد زغلول الذي( ركب قمة المد الثوري) إبان ثورة1919, وقام مع زملائه من القادة المتصدرين للثورة بتأسيس حزب الوفد كأول حزب ذي طبيعة أقرب إلي الصيغة الجماهيرية العامة.وقد تبين تشتت الحركة الوطنية الجامعة, ابنة ثورة1919, وتفكك بنيتها النضالية المفترضة, من حول الكيان المترهل لحزب الوفد الذي انتهي إلي تبني الآلية الانتخابية ذات الطابع المتقطع طريقا للوصول الجزئي إلي السلطة, ضمن نظام ملكي في بلد خاضع للاحتلال الأجنبي-البريطاني. وما كان لحركة الجيش التي ساقتها الأقدار فجر23 يوليو1952 إلي تولي تقاليد القيادة العليا للدولة وللوطن معا, إلا أن تعمل علي بناء صيغة سياسية جامعة, بطريقتها وبما في مكنتها, وذلك بالعمل من أعلي, من مركز السلطة بالذات, نزولا إلي القواعد الراسخة, في محاولة لبناء تنظيم سياسي جماهيري.. كانت تلك محاولة طموحا, وغيرت جلودها أكثر من مرة( هيئة التحرير الاتحاد القومي الاتحاد الاشتراكي العربي) ولكنها بقيت حتي آخر رمق من مداها الزمني(1952-1970) تجربة ناقصة في أقل تقدير: تجربة بناء تنظيم شعبي من مواقع السلطة. لقد كانت التجربة تستمد مداد قوتها من مفعول الزعامة الكارزماتية ذات الطابع الاسثنائي ل البطل الوطني, الذي جسدته شخصية جمال عبد الناصر, وما أن توفي في28 سبتمبر1970, حتي فقدت التجربة كلها عصبها المحرك وما كان لها أن تستمر بعد ذاك. وجاء السادات الذي قاد التوجه المعاكس لتيار يوليو الرئيس( الناصري) وحاول الاستمرار بتجربة التنظيم السياسي الواحد, فلم يستطع, و لجأ من ثم إلي إقامة ما يسمي المنابر داخل هذا التنظيم, ثم ما لبث أن سمح بتحولها إلي أحزاب متعددة. بيد أن هذه الأحزاب الخارجة من عباءة قمة السلطة بعد زوال عصبها المحرك بقيت علي الدوام, ضعيفة وغير فعالة, بحكم أسلوب النشأة وطريقة التأسيس غير النضالية, إذ لم تقم في أتون حلبة الكفاح الاجتماعي والوطني, وبين الناس.وقد ظل إثم النشأة ملازما لتلك الكيانات الحزبية, كأثر لتراكم تاريخي طويل الأمد, ارتدادا إلي فترة التشتت والتفتت السياسي بين الثورتين(1919-1952) ثم فترة الاضطرار إلي بناء التنظيمات السياسية من أعلي(1952-1970).. ولهذا, كان من السهل علي نظام مبارك أن يقوم بأعمال الترويض والتدجين و الاستئناس لتلكم الأحزاب والكيانات الحزبية, حتي أطلق البعض عليها مسمي الأحزاب الورقية أو الكرتونية. ولم يكن لهذه الكيانات دور من قريب أو من بعيد في التمهيد لثورة25 يناير. و بعد هذه الثورة ظلت الأحزاب التقليدية علي حالها, عبر الفترات المتعددة التالية, وسرعان ما فقدت فاعليتها بعد الثلاثين من يونيو, ثم لفظت أنفاسها, شاهدة علي العقم السياسي المخيم علي الأحزاب السياسية المصرية التقليدية. لمزيد من مقالات د.محمد عبد الشفيع عيسى