الاستفتاء علي مشروع الدستور لم يكن اعترافا بنجاح خريطة الطريق فقط, لكنه أيضا دليل علي جدارة مؤسسات أثبتت كفاءة في التعامل مع الصعاب, ورسالة طمأنة لقطاعات بدأت تسترد عافيتها, ويمكن الإشارة إلي أربع دوائر رئيسية عبرت امتحان الدستور فكتبت لها شهادة نجاح جديدة. الأولي, المواطن البسيط الحالم بتغيير مجري حياته, من الفقر والمرض والجهل, إلي الستر والصحة والتعليم, حسبما تضمنته نصوص في التعديلات الدستورية, التي انحازت لطبقة الفقراء, ووفقا لما وصل إلي أذهان الناس عبر سياسيين كثيرين ووسائل إعلام مختلفة. لذلك رأينا مشاهد مؤثرة من مواطنين, كبارا وصغارا, ومرضي وشيوخا, مسنات وفتيات, كلهم ذهبوا ليدلوا بأصواتهم في صناديق الاقتراع, أحاط بهم أمل في مستقبل أفضل, حيث شعروا بالثقة أن مواد الدستور أكبر ضمانة عملية قدمت إليهم. ولم يتوان لحظة, الموعودون بالحد الأدني للأجور, والطامحون في زيادة المعاشات, كذلك لم يتخلف المبشرون بالكادر. ومنح هؤلاء جميعا طعما خاصا لعملية الاستفتاء, جعلت المواطن البسيط سيدها, وربات البيوت فاتحات لشهيتها, والشيخ الكبير فاكهتها الأساسية, وكانت الشرائح المختلفة للمجتمع حاضرة, لتأكيد عدم تخلف أحد, إلا من كان في قلبه مرض. الثانية, الجيش والشرطة, حيث واصلا إبهارنا, وأكدت المؤسستان عمق الوطنية التي يتمتعان بها, وأن الجهود التي بذلت طوال الفترة الماضية لقطع دابر الإرهاب لم تذهب سدي. فالتناغم الشديد الذي رأيناه قبل وفي أثناء الثلاثين من يونيو لم يتزحزح, بل ازداد وعيا وتجذرا, فقد رأي العالم مدي القدرة علي توفير درجات مناسبة من الأمن والاستقرار خلال عملية الاستفتاء, وجري تفويت الفرصة علي متربصين في الداخل ومتآمرين من الخارج لتعطيل المسيرة السياسية. وهي شهادة جديدة كتبت, لتضاعف من حجم الثقة في أجهزة الأمن, وتشير إلي زيف الأصوات التي ارتفعت والحناجر التي توعدت. وإذا كان النجاح في عبور الاستفتاء بهذه السهولة, فإن الامتحانات السياسية القادمة من المنتظر أن يتم تجاوزها بأقل تكاليف ممكنة. فالتفاف الجماهير حول رجال الجيش والشرطة والتعاون لتسيير مهمتهما أسقط الافتراءات التي حاولت النيل من سمعة كليهما, وأكد أن بأسهما شديد أصلا علي كل من تسول له نفسه الإضرار بمصالح الوطن. الثالثة, الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء, ربما هناك كثيرون لم يشعروا بحجم الدور الذي لعبته الجهات الثلاث, في غمرة المظاهرات والاحتجاجات التي حاول أصحابها التشويش عليهم, وثبت الفشل في عدم القدرة علي تفتيتهم, وأعيد الاعتبار إليهم, وأقبل الناس ليثقوا بهم, ويسترشدوا بالنصائح التي تصدر عن شيوخ الأزهر, واستردت وزارة الأوقاف دورها المفقود, عندما رفضت التفريط في منابر المساجد, ومنعت كل من هب ودهب من صعودها, وأغلقت دار الإفتاء جزءا مهما من حنفية الفتاوي لأهداف سياسية. وقد ظهرت هذه البراعة في حض الناس بالحسني واللين علي الذهاب إلي الاستفتاء, ولم نسمع شيخا وطنيا أفتي بتكفير من امتنع عن الذهاب للتصويت, أو اتهام أحد بالخروج من الملة لمجرد أنه قال لا في وجه من قالوا نعم( مع الاعتذار للشاعر الكبير أمل دنقل), ولم نر شيخا يتخذ الاستفتاء مطية لتقسيم الناس وتوزيع الفتن. وعندما أحكمت الجهات السابقة قبضتها أخذت الأمور تعود إلي طبيعتها, من حكمة وسماحة ورشادة ورجاحة عقل, وكان الاستفتاء علي الدستور شهادة ميلاد لهم, وربما يتحول إلي محطة تكتب عليها شهادة وفاة لآخرين. الرابعة, تتعلق بوضع الاقتصاد, الذي تكبد خسائر فادحة طوال الفترة الماضية, والمتوقع أن يبدأ مرحلة تحسن تدريجي خلال الأيام المقبلة. فالاستفتاء علي الدستور, لن يمنح هذا القطاع صك نجاح فقط, بل سيقدم له وثيقة تفوق. ومن لاحظ الارتفاع الذي شهدته البورصة عقب اعداد مشروع الدستور تيقن من التلازم بين الجانبين. ومن يدقق النظر في النشاط الذي بدأت تشهده السياحة أخيرا سيتأكد من وجود فرص واعدة, عندما تستكمل باقي حلقات خريطة الطريق, لأن العلاقة تسير بصورة طردية بين الاستقرار السياسي والاقتصادي, كلما حقق الأول خطوة متقدمة, تبعه الثاني بخطوات وربما قفزات. ومع أن الاستثمارات الأجنبية الكبيرة هربت في السنوات الماضية, فإن استعادتها أصبحت وشيكة. فمرور الاستفتاء علي الدستور وسط موجات من التحريض والتخويف, بعث بإشارات إيجابية, أهمها أن الدولة تتقدم بخطي ثابتة نحو المزيد من العافية والاستقرار, ومن يقفون ضد إرادة غالبية المواطنين لا يملكون أكثر من الضجيج دون أي شيء من الطحين. نجاح هذه الدوائر لا يلغي النشاط الملحوظ الذي شهده الجهاز الإداري للدولة في التوعية السياسية بأشكالها المختلفة, وقدرة هائلة علي الإقناع, وقد قامت مجموعات من الشباب بأدوار مذهلة في التنظيم خارج مقار الانتخابات. كما ساعدت جهود أعضاء لجنة الخمسين وحكمة رئيسها عمرو موسي وجولاتهم في مدن مختلفة علي تبسيط مواد الدستور. وأعتقد أن الجهاز الإداري لو عمل بالكفاءة نفسها علي الدوام, فسوف نختصر مسافات كبيرة لنري مصر الجديدة قريبا, ويزداد الراسبون في جميع الاختبارات ندما. بالتالي يعتبر إجراء الاستفتاء في حد ذاته نقطة تحول أو بداية حقيقية مليئة بالإشارات والرسائل السياسية الإيجابية. لمزيد من مقالات محمد ابوالفضل