قررت الحكومة بدء تطبيق الحد الأدني للأجور اعتبارا من يناير المقبل, وأعادت الحكومة علي لسان مسئوليها تأكيد التزامها بهذا القرار الذي يجعل الحد الأدني للأجور هو1200 جنيه شهريا. وإذا صح العزم وجري التطبيق الفعلي في التوقيت المحدد له; فمن المتوقع أن قطاعات كبيرة من الموظفين والعمال في القطاع العام والقطاع الحكومي سوف تدخل ضمن مظلة هذا الحد الأدني الذي يستهدف تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية التي طال انتظار السواد الأعظم من المصريين لها, هناك عقبات كثيرة تنتظر تطبيق هذا القرار منها مثلا: الكيفية التي سيتم بها حساب الحد الأدني ومن الذين سينطبق عليهم: هل هم العاملون أو الموظفون الذين يتقاضون أقل من هذا المبلغ؟ أم إنهم الذين سيتم تعيينهم ابتداء من يناير2014 م من حملة المؤهلات العليا مثلا؟ وأين حقوق العمالة الزراعية التي تعاني من الفقر المدقع؟ ومن أين ستدبر الحكومة تمويل هذا التعديل في أجور ومرتبات ما يقرب من خمسة ملايين عامل وموظف من المفترض أن يستفيدوا من رفع الحد الأدني بحسب تصريحات رئيس الحكومة؟. لكن بعيدا عن تلك العقبات وغيرها من التعقيدات المحاسبية والقانونية للتطبيق العملي لهذا القرار, فإن السؤال الذي يشغل كثيرين الآن هو: هل سيكفي هذا الحد الأدني لتحسين نوعية حياة الأسرة المصرية ويكفل لها حياة آدمية كريمة؟. ونقصد هنا الأسرة المنوالية بالمعني الإحصائي; أي الأكثر شيوعا في المجتمع من حيث عدد أفرادها, ومصادر دخلها, ومن حيث سلوكها الاستهلاكي, ونوعية الوحدة السكنية التي تقيم فيها, ونفترض أن هذه الأسرة تضم في حدها الأدني أربعة أفراد(أب وأم واثنان من الأبناء في سن التعليم غالبا) يمكن أن تكون هذه الأسرة أكثر عددا من ذلك بطبيعة الحال ولكننا اخترنا هذا التقدير الأقل لغرض الشرح والبيان فقط وبالاستناد إلي السلوك الاستهلاكي الشائع للأسرة المصرية, وإلي مستويات الأسعار الحالية في ديسمبر2013 م, فإن هذه الأسرة المفترضة تحتاج إلي سلة من الاحتياجات الاستهلاكية والخدمية تتضمن الآتي شهريا: خبز30 جنيا, و2 كجم لحوم مجمدة70 جنيها, و2 دجاجة70 جنيها, و4 كجم أسماك60 جنيها.. خضراوات وطماطم وفلفل وبادنجان150 جنيها, وبصل وثوم وكمون وملح وفلفل أسود30 جنيها, وسمن صناعي46 جنيها, وزيت طعام30 جنيها, وغيرها وإجمالي هذه البنود كلها يساوي1536 جنيها شهريا. ونلاحظ أن نوعية المواد الاستهلاكية التي أدرجناها بأسعار السوق في ديسمبر2013 هي من المستوي المقبول وليست من المستوي المتوسط ولا المتميز بالطبع. ومعني هذا أن الحد الأدني الذي يسد حاجات الأسرة شهريا علي النحو الذي وصفناه يزيد بمقدار336 جنيها عن الحد الأدني الذي اعتمدته الحكومة وقررت تطبيقه اعتبارا من يناير2014 م. وكل هذا بافتراض ثبات الأسعار وتوقفها عن الارتفاع, وهذا الافتراض غير مضمون في ظل عجز الحكومة عن السيطرة علي الأسواق, واستمرار ارتفاع معدلات التضخم. وفوق كل ما سبق فإن السواد الأعظم من المواطنين تتملكهم هواجس ومخاوف من المفاجآت التي قد تواجههم في يناير عندما يحين الوفاء بما وعدت به الحكومة. يتخوف بعضهم مثلا من أن تلجأ الحكومة إلي سياسة الخطوة خطوة بدعوي أن تطبيق القرار يجب أن يكون علي مراحل, وليس دفعة واحدة. وقد تستغرق المراحل عدة سنوات, وقد تثير المرحلية حزازات اجتماعية بين الذين سيأتون في المرحلة الأولي, والذين سينتظرون المرحلة الأخيرة. هذا السيناريو تؤكده آراء بعض خبراء الاقتصاد الذين يقولون إن الحكومة ليس بوسعها الوفاء بالحد الأدني لما يقرب من خمسة ملايين موظف وعامل تقل مرتباتهم عن1200 جنيه شهريا.والسبب في عدم قدرة الحكومة علي الوفاء هو استحكام الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد. والخشية هي أن تلجأ الحكومة إلي حجج تبدو وجيهة كي تتعلل بها من أجل التملص من التطبيق الشامل والناجز للحد الأدني للأجور, ومن هذه الحجج: العجز عن توفير التمويل اللازم, أو ضرورة انتظار إقرار الحد الأقصي وتطبيقه, مع تطبيق نظام الضريبة التصاعدية بالتوازي مع الحد الأدني كي يتوفر هذا التمويل المطلوب, أو أن الظروف الأمنية لا زالت غير مستتبة, وأن الانطلاق في عملية الإصلاح وتطبيق سياسات العدالة الاجتماعية وتطبيق الحد الأدني للأجور مرهون بالاستقرار الأمني, وحتي إذا تمكنت الحكومة من التغلب علي تلك العقبات ولم تتعلل بتلك العلل; فإن كثيرين يتوجسون من أن ترتفع الأسعار في الأسواق إلي الحد الذي يلتهم الزيادات التي سيتحصلون عليها في رواتبهم; هذا إلي جانب العجز الأساسي وهو336 جنيها شهريا, وهو العجز الذي يتعين عليهم أن يتحملوه, أو يدبروه بمعرفتهم نتيجة الفرق بين الحد الأدني الذي قدرته الحكومة ب1200 جنيه شهريا, والحد الأدني الواقعي الذي قدرناه طبقا لبيانات التمرين الذي قمنا به. يضاف إلي كل هذا أن المفترض في جميع الأحوال هو أن يكون الحد الأدني للأجور بمستوي أعلي من مستوي خط الفقر, وقد كشف بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك الصادر عن جهاز التعبئة العامة والإحصاء المصري في نوفمبر2013 عن ارتفاع معدلات الفقر إلي26.3% مقابل25.2% في العام2012, وكشف أيضا عن أن حد الفقر الأدني للفرد هو327 جنيها شهريا; أي بإجمالي1281 جنيها شهريا لأسرة من أربعة أفراد. ومعني هذا أن تقدير الحكومة للحد الأدني يقل عن خط الفقر الأدني ب81 جنيها, وهذا الانخفاض يمثل عجزا يضاف إلي العجز الأساسي الذي قدرناه ب336 جنيها شهريا للوفاء بنفقات الحصول علي سلة السلع والخدمات اللازمة للأسرة شهريا. وإذا كانت كل الهواجس والتخوفات السابقة قابلة للمناقشة والبحث عن حلول لها, فإن أخشي ما يخشاه السواد الأعظم من المصريين الذين باتوا ينتظرون يناير بحده الأدني بفارغ الصبر, هو أن يحدث للحكومة الحالية حدث مفاجئ; كأن تستقيل, أو تقال مثلا, وفي هذه الحالة فلن يكون أمامهم إلا التذرع بالصبر إلي أجل غير مسمي, وهو أمر لا طاقة لهم به, ولا يمكن لأي سلطة أن تعول عليه كثيرا; لأن قضية العدالة الاجتماعية, وهي جوهر الثورة المصرية, لم تعد تحتمل مزيدا من المماطلة والتأخير.. والأهم من ذلك هو أن صبر السواد الأعظم من المصريين يبدو أنه أوشك علي النفاد. لمزيد من مقالات د.ابراهيم البيومى غانم