عندما أراد الصينيون القدامي أن يعيشوا في أمان, بنوا سور الصين العظيم.. واعتقدوا بأنه لا يوجد من يستطيع تسلقه لشدة علوه, ولكن خلال المائة سنة الأولي بعد بناء السور, تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات!, وفي كل مرة لم تكن جحافل العدو البرية في حاجة الي اختراق السور أو تسلقه!, بل كانت في كل مرة تدفع للحارس الرشوة ثم تدخل عبر الباب, والخلاصة أن الصينيين انشغلوا ببناء السور ونسوا بناء الحارس. وأحسب أن شيئا من هذا كله قد حدث خلال العقود الأربعة الماضية في مصر, لقد انشغلت الحكومات المتعاقبة بأمور كثيرة ليس من بينها الشعب, حتي قيل في وصف مصر, إنها حكومة بلا شعب.. وشعب بلا حكومة!, لقد ترك الشعب إلي حال سبيله بلا خدمات ولا تعليم ولا تواصل ولا حلم وطني جامع, ولا مشروع للمستقبل, وفي المقابل تلقفت الجماعات الإسلامية المتطرفة هذا الشعب وقواه الحية, لكي تملأ الفراغ الكبير.. فجري تسطيح الفكر, وتعبئة الأدمغة بكل الأفكار الكارهة للتقدم والرقي والتسامح, وجري تعبئة النفوس بالغضب من الفساد وتراجع الدور, ومهانة المصريين في ديارهم وبلدان الآخرين, والآن بعدما انكشف الوجه الإرهابي للجماعة الأم, التي خرج من عباءتها جميع الجماعات المتطرفة والإرهابية, وبعدما أعلن رسميا عن أن الإخوان جماعة إرهابية.. تري هل ذلك نهاية الصراع أم ذروة المواجهة؟! والأمر الآخر, هل الحل الأمني وحده يكفي أم لا؟. ولعل الحقيقة المؤلمة تقول, إن الحل الأمني وحده لا يكفي, بل لابد من استراتيجية متكاملة للتعامل مع معضلة الإرهاب الذي يتستر خلف لافتة الدين, كما أن ما حدث هو ذروة المواجهة مع جماعة الإخوان وليس نهاية الصراع بأي حال من الأحوال, وأحسب أن النقطة الأولي تتعلق بحزب الحرية والعدالة الذراع السياسية للجماعة, والذي لابد من حله وتجميد أرصدته ومصادرة مقاره, ولهؤلاء الذين سوف يسارعون بالتساؤل بشأن إمكان فتح الطريق أمام العمل السياسي لأنصار الجماعة المحظورة بتسجيل ملاحظة بسيطة: هل استطاع الحزب في ذروة الأزمة أن يقدم مخرجا؟, هل تمكنت الوجوه المعتدلة أن تتجاوز السيطرة الفعلية لقادة الجماعة؟!, والإجابة بوضوح.. بالقطع لا, وهنا رأينا المعضلة الحقيقية لدعاة إدماج هذه العناصر في اللعبة السياسية, والتي تمثلت في عدم قدرتها علي تشكيل حزب برلماني مفتوح للجميع, مع الحفاظ علي النواة الداخلية أو التنظيم الأم, الذي يسعي للتأثير في السياسات, فيما يحقق أجندته الأساسية المتمثلة في الدعوة خارج الساحة الحزبية الديمقراطية, ومثلما يقول يزيد صايغ من معهد كارينجي للسلام: لا يمكن لجماعة الإخوان الحفاظ علي نواة تنظيمة داخلية لا تخضع للشفافية والمساءلة أمام الجمهور.. في حين تمارس السيطرة الفعلية علي أداة برلمانية منفصلة اسميا, إذن لا يهم أن تكون الحرية والعدالة أو أي حزب آخر يخلفه, فنحن دوما سنكون في مواجهة مجرد واجهة تخفي وراءها تنظيما إرهابيا يحمل أجندة خفية, واذا ما جري التسامح معها فإن ذلك سيكون أمرا مدمرا للديمقراطية الحقيقية, وقيام الدولة المدنية الحديثة المزدهرة اقتصاديا. ولعل إدراكنا لهذه الأمور يدفعنا لإعادة النظر في كل الحلول السابقة للتعامل مع ظاهرة الإسلام السياسي والتطرف الديني, والتي يجمع الخبراء علي أنها تعود إلي3 أسباب: أولا: ظهور هذه الحركات المتطرفة بتخطيط ودعم من جهات أجنبية وأجهزة استخبارات غربية بريطانية وأمريكية لتمرير مخططات تصب في مصلحة الدول الاستعمارية, ثانيا: نمت هذه الحركات نتيجة لتفاقم الأزمة المالية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات العربية بعد انهيار وفشل الأنظمة الليبرالية والاشتراكية بها, ثالثا: ظهور هذه الحركات الراديكالية يعود الي أسباب ثقافية, وبالتحديد الي العقلية البسيطة لدي البعض مما أدي الي سيطرة الأفكار السلفية المنغلقة والمتشددة علي تلك الشريحة من الناس, وغياب المؤسسة الدينية الوسطية كالأزهر عن أداء دورها( بل شاهدنا اختراقات خطيرة لها). وإذا كان ذلك هو الواقع, فإن تصدر الإخوان للمشهد السياسي بعد اختطافهم ثورة52 يناير, مكنهم من إقامة تحالف نادر مع الجماعة الإسلامية وبقايا تنظيم الجهاد, والجبهة الشرعية للحقوق والإصلاح والجبهة السلفية, وهو التحالف الذي أطلق عليه بعد عزل مرسي التحالف الوطني لدعم الشرعية, وهو تحالف فوقي أيديولوجي مثلما يطلق عليه علي بكر الباحث المتخصص في الحركات الإسلامية, ويري بكر أن الجماعة الإسلامية التي برزت كأبرز مساند لجماعة الإخوان قد خرجت عن مسار المراجعات الفكرية, وأنها ربما وضعت مستقبلها أمام ريح عاتية, حيث يبدو في الأفق أن الأسوأ لم يأت بعد بالنسبة لمستقبل هذه الجماعة, وبعيدا عما إذا كان قادة الجماعة الإسلامية لم يتمكنوا من قراءة المشهد السياسي بطريقة صحيحة, أو أنهم يسيرون الي المجهول.. فإن النخبة الحاكمة في مصر عليها أن تعكف علي مراجعة شاملة مع هذه الجماعات والحركات, فمن الواضح أنها غير قادرة علي التغير أو الاندماج في اللعبة السياسية, بل لدي هؤلاء القادة مصالح وارتباطات سرية بأجهزة مخابرات ودول غربية لا تريد الخير لمصر, كما أن هؤلاء فيما يبدو لديهم ضعف شديد أمام اغواءات المال والسلطة, ولا يتورعون عن ارتكاب أقسي أعمال العنف والإرهاب في صراعهم الدامي لإحكام السيطرة علي مقاليد الحكم, ولعل في مقولة الفريق أول عبدالفتاح السيسي الخلاصة يا تحكمونا.. يا تقتلونا!.. والآن لابد من الانتباه الي الاهتمام بشأن الناس لأنهم هم الحماة الحقيقيين لمصر, فلا يكفي تعلية الأسوار أو الاهتمام بالحلول الأمنية فقط, بل هناك المعركة الأصعب, وهي إصلاح أحوال الناس في بر مصر!. لمزيد من مقالات محمد صابرين