انقلب السحر علي الساحر, ولم يعد خافيا علي أحد أن انقساما مروعا حدث بين حليفي الأمس القريب اللذان أقسما علي كتاب الله بأن يسعيا مخلصين لنصرة الإسلام في أرض الأجداد وريثة الأمبراطورية العثمانية المفتري عليها, وسبحان من له الدوام فكلاهما بات ينعت الآخر بالعدو وتلك مأساة أدمت ومازالت قلوب الأتراك, خصوصا أصحاب التقوي, بيد أن التصريحات القادمة من ولاية بنسلفانيا الأمريكية حيث المنفي الاختياري لرجل الأعمال والقطب النوريسي الشهير الاسلامي فتح الله جولن التي نفت الضلوع في إثارة أزمة الفساد الحكومي, لم تفلح في تهدئة الخواطر الملتاعة, أو تنهي حالة التوجس والقلق, والتي لم تعد تقتصر علي عموم البسطاء الورعين, بل راحت تشمل أطيافا شتي من المجتمع الأناضولي, وها هي موجات الغضب تندلع صاخبة في العاصمة أنقرة واسطنبول ومدن عدة جنوبا وشمالا, غربا وشرقا, منددة ورافضة ومطالبة بإقالة الحكومة ورئيسها رجب طيب أردوغان, ولأنها هادرة لا تتوقف علي الأقل حتي الآن فلابد من مواجهتها بكل حسم ولا بأس في استخدام كل فنون القمع التي سبق واستهجنها رأس النظام علي الآخرين, ولكن ماذا عساه أن يفعل وبقاؤه علي سدة الحكم يمكن أن يزول بين عشية وضحاها, غير أن اللافت وهذا منحي مغاير لا ينبيء بالخير, هو الخوف من أن يتسرب اليأس إلي جنود مكافحة الشغب خاصة وهم يرون قادتهم يطاح بهم لا لسبب سوي أنهم أدوا واجبهم. ولأن صيحات الغاضبين كم ترددت بقوة قبل أشهر سبعة, حتي إن كانت بتنويعات مختلفة, إلا أنها لم تحرك ساكنا في قمة السلطة التنفيذية هكذا اعتقد الذي يعتليها, هنا صارت المكابرة عنوان المرحلة الأردوغانية بإمتياز لا يدانيها شك, فذات الجمل والعبارات تسرح في الفضاء وفي مقدمتها' القلة القليلة التي لا تعبر عن جموع الشعب المخلصة لحكامها, هي نفسها عادت تعيث فسقا في أرض الأباء الأطهار, مدعومة من رجال يتصورون أنفسهم دولة داخل الدولة, فليسحقوا جميعا وسنفتت أوصالهم ونقطعهم قطعا قطع. والملاحظة التي تسترعي الإنتباه هي أن تلك الحفنة الصغيرة, في إحتجاجات حديقة جيزي الشهيرة بتقسيم الصيف الماضي, قيل أن لوبي فوائد البنوك هو من أشعلها ووقف وراءها, ومثلما كانوا الأشرار الدوليون من عوامل زعزعة الاستقرار والنجاح الباهر في شرق آسيا ها هم يعودونعلي لسان مساعدي الحاكم خليفة تركيا الجدي ونوابه, فوفقا لما قاله بولنت أرينتش الرجل القوي نائب رئيس الوزراءفهذه التطورات توضح لنا أنها مؤامرة مدبرة لإضعاف الحكومة والإساءة لها وأضرارها قبل اقتراب موعد الانتخابات المحلية في تكرار مشابه لأحداث منتزه جيزي بارك, فعز عليهم أن نحقق خلال ثلاثة الأرباع الأخيرة من العام الجاري نموا بنسبة4% إضافة إلي استمرار جذب الاستثمارات الاجنبية, ولم ينس أن يختم كلامه قائلا بثقة متناهيةحتما سنتوصل هوية المجموعة التي تعمل ضد حكومتنا. وحتي لا يترك المشهد المؤامرتي معمما دون تحديد انطلقت التهديدات منذرة السفراء الأجانب,إياكم والاقتراب وإلا عدتم إلي دياركم, في إشارة إلي العم سام وممثله فرنسيس ريتشاردوني, وهذه خطيئة أخري يقع فيها صناع القرار والدليل أن مواطنيهم صاروا يصفون تصريحاتهم بالعنجيهية الفارغة والمزدوجة, يطلقون الشتائم ووراء الستار يتملقون ويترجون وهذا ما كشف عنه نافذون في الصحافة والإعلام في آن واحد. فالقاصي والداني صار علي يقينبأن واشنطن غير راضية عما يجري علي الساحة التركية, وظهر ذلك في حالة التباعد والنفور من قبل البيت الأبيض فرئيسه باراك أاوباما لم يجر أي اتصال مع أردوغان منذ زيارته الأخير للعاصمة الأمريكية في الأسبوع الثالث من مايو الماضي, وفي أكتوبر راح ارينتش نفسه للولايات المتحدة متلمسا الخطي فيمحاولة لتعديل المسار السياسي بين البلدينلكن يبدو أنهذا مازال أمامه إستحقاقات علي تركيا أن تفعلها قبل ان تعود لمسارها. إنها الحرب المفتوحة علي كل الجبهات وبعد ان كان الصراع علمانيا إسلاميا, أصبح إسلاميا خالصا, الطريف أن نائبا صرخ تحت قبة البرلمان ساخرا: كنتم تقولون أن العلمانية لا تستقيم مع الإسلام, وهل ديننا الحنيف يستقيم مع الرشوة والفساد. والسؤال الآن ما الذي بقي سوي التمادي الجانح الذي لم يعد يلجمه لجام؟ فلا مجال إذن للاتعاظ ومثل حكام العالم الثالث صدرت التوجيهات بإسدال الستار الرهيب علي الإعلام والإعلاميين فلا صوت يعلو فوق أردوغان لتتسعالشروخ في الجسدين الحياتي والسياسي ولا أحد يعلم إلي متي تنتهي عواقب الحاصل وثمة من يترقب الخطوة التالية التي يمكن أن يتخذها الرئيس عبد الله جول الذي ألغي برنامجه قابعافي القصر الجمهوري عاكفا علي دراسة بدائل, قبل أن تستفحل أوضاع يستحيل بعدها أيإصلاح, فهل يفجر قنبلته ويعلن الترشح مجددا للرئاسة ليقطع الطريق علي رفيقه أردوغان الذي أكد أنه عازم علي المضي قدما في سياسته,فلا تراجع لأنه يعلم يقينا أن الدور سيأتي عليه, وها هي اتهامات بالفساد بدأت تلاحقه وفي الأروقة تتناثر الحكايات عن ضلوع عائلته في عمليات احتكارية واسعة النطاق.