دعاني الأصدقاء في جمعية الصداقة المصرية الروسية للإسهام في الاحتفال بمرور سبعين عاما علي العلاقات الدبلوماسية ما بين القاهرةوموسكو; فرحبت بالدعوة لشعوري بالعرفان- بوصفي مواطنا مصريا- لكل ما قدمه الأصدقاء الروس لمصر الحبيبة, وكان آخر مواقفهم في ذلك الدعم الذي أبداه الرئيس بوتين لثورة30 يونيو وتأييدها لإدراكه أنها ثورة شعب حر علي حكم فاسد, ورغبة أمة في بناء وطن مستقل ينعم بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وكان دوري في الاحتفال أن أقرأ خطابا موجها إلي الرئيس فلاديمير بوتين لدعوته إلي زيارة مصر; تقديرا لموقفه العادل الداعم لثورة الثلاثين من يونيو. وقد وقع الخطاب آلاف مؤلفة من المصريين علي امتداد أرض الوطن من أقصي شماله إلي أقصي جنوبه. ولم يكن دافعي للإسهام في هذه الاحتفالية هو تقدير موقف الرئيس الروسي من الثورة المصرية الأخيرة, وإنما تقدير المواقف الروسية العظيمة لدعم الثورات المصرية فحسب, ابتداء من ثورة الثالث والعشرين من يوليو سنة.1952 لقد حطمت مصر- بفضل جيشها العظيم- قيود الاستبداد والظلم التي تجسدت في حكم ملكي فاسد, وسرعان ما أتبعت ذلك بالتحرر من الاستعمار البريطاني بتوقيع اتفاق الجلاء في التاسع عشر من أكتوبر1954; لتكتمل لمصر حرية الوطن والمواطن, تحت راية شعار: ارفع رأسك يا أخي فقد مضي عهد الاستغلال وزمن الاستعمار. ولم تستمتع مصر بفرحة استقلالها طويلا, فسرعان ما بدأت إسرائيل- ربيبة الاستعمار القديم وغرسه في الأرض العربية- في الاعتداء علي الحدود المصرية, وتطور الأمر لتتحالف مع إنجلترا وفرنسا في العدوان الثلاثي علي مصر. ولم يجد عبد الناصر حليفا قويا يقف إلي جانب مصر في استكمال تحررها الوطني سوي الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت. ولم تتأخر موسكو أو تتقاعس عن نصرة مصر; فأرسل نيكولاي بولجانين رئيس مجلس الوزراء السوفيتي إنذاره الشهير إلي الدول المعتدية بأن الحكومة السوفيتية عازمة وبكل حماسة علي اللجوء لاستخدام القوة من أجل دحر المعتدين علي مصر. وكان ذلك يعني ضرب باريس ولندن وتل أبيب بالأسلحة النووية إذا لم تتراجع عن عدوانها الغاشم علي مصر, وبالفعل تراجع المعتدون, وانسحبت قوات العدوان الثلاثي مدحورة, وصعدت الوطنية المصرية إلي عنان السماء, وأسهم نصر1956 في تجسيد الحضور المتصاعد للوعي القومي العربي, وتحولت صورة عبد الناصر من أحد أقطاب عدم الانحياز مع تيتو ونهرو- في مؤتمر باندونج أبريل1955- إلي أحد أبرز زعماء عالم التحرر من الاستعمار القديم والجديد, وبطل القومية العربية الذي تهتف باسمه الملايين من المحيط إلي الخليج. وأصبح عبد الناصر بطلا عظيما في أعين الشعب الروسي الذي أطلق اسمه علي أحد شوارع موسكو, ولايزال الشارع يحمل اسم عبد الناصر رغم تفكك الاتحاد السوفيتي, وذهاب الاسم نفسه إلي غياهب النسيان في تتابع آثار البيريسترويكا. علي الرغم من عداء عبد الناصر للشيوعية, واعتقاله للشيوعيين المصريين من ديسمبر1959 إلي سنة1964, فإن علاقة الصداقة بين الحكومة المصرية والاتحاد السوفيتي لم تتوقف, وظل الاتحاد السوفيتي يدعم النظام المصري, ويساعده علي إنجاز أعظم خطة للتنمية شهدها التاريخ الوطني لثورة يوليو, وعلي رأسها السد العالي الذي بدأ العمل رسميا في بنائه في التاسع من يناير1960, وتم الانتهاء من تنفيذ المرحلة الأولي في السادس عشر من مايو1964 مع الإفراج عن الشيوعيين المعتقلين, مجاملة لحضور خروتشوف بعد التوافق بينهم والنظام الناصري. ولم يمت عبد الناصر إلا بعد أن أعلن في خطابه الأخير( يوليو1970) الانتهاء من إعادة بناء الجيش المصري, واكتمال العمل في بناء السد العالي الذي احتفل السادات بافتتاحه رسميا في السادس عشر من مايو1971 بوصفه أكبر مشروع مصري وطني في التنمية, وأكبر وأبقي علامة علي علاقة صداقة عظيمة لا تزال آثارها ونتائجها الإيجابية باقية إلي اليوم, وستبقي في المستقبل شاهدة علي عظمة علاقات التعاون, عندما يكون بين أطراف متكافئة ولصالح المستقبل. ولم يكن من قبيل المصادفة أن أحد المهندسين المصريين الذين أسهموا في بناء السد العالي هو الذي اهتدي إلي طريقة إزالة الساتر الترابي لخط بارليف بتسليط خراطيم مياه بالغة القوة علي التراب لإذابته, استلهاما من عملهم في تحويل مجري النيل. عندما حدثت هزيمة1967 نتيجة عوامل عديدة, ليس هنا مجال ذكرها, لم يتركنا الأصدقاء الروس نواجه محنتنا بلا حول ولا قوة, فقد مدوا أيادي العون, اقتناعا بعدالة قضيتنا, فوقفوا معنا وقت الشدة. وبفضل تعاونهم العسكري( بالسلاح وخبرة الخبراء) استطاع الجيش المصري أن يستعيد قدرته علي المبادأة, ويخوض حربا من أشرس الحروب وأشرفها, هي معارك الاستنزاف التي قامت علي الدفاع النشط والعمل التعرضي- كما يقول الخبراء- وأخذ يظهر معدن الجندي المصري منذ معركة رأس العش التي دارت عقب الهزيمة في الأول من يوليو1967, وتصاعدت حرب الاستنزاف إلي أن اكتملت عملياتها وفرضت حضورها علي العدو الإسرائيلي في ملاحم وطنية استمرت ثلاث سنوات ونصف إلي بداية حرب أكتوبر.1973 ولم يؤثر موت عبد الناصر علي موقف الاتحاد السوفيتي الذي كان نعم الداعم بالسلاح الذي ما كانت تظهر فاعليته إلا بعظمة الجندي المصري الذي لم يعرف اليأس, وشجاعة القائد الذي ظل صامدا إلي أن حقق معجزتين: معجزة بناء السد العالي, ومعجزة استكمال إعادة بناء الجيش الذي أصبح جاهزا للعبور واستعادة الأرض حتي قبل أكتوبر1973 وما أعقبها من أشراك السياسة وأحابيلها. لكن العلاقة المصرية الروسية ليست سلاحا, أو تعاونا عسكريا, أو تبادلا اقتصاديا وتجاريا, وإنما هي قبل ذلك كله علاقات ثقافية. ولعل الثقافة هي اللبنة الأولي الممهدة لكل هذه العلاقات. ولا أتردد في أن أرجع ابتداء هذه العلاقات الثقافية إلي شيخ أزهري مستنير هو محمد عياد الطنطاوي(1810-1861) الذي عاش وعلم وألف في روسيا القيصرية. وكان أول سفير للثقافة المصرية العربية الإسلامية هناك. ولم يقتصر دوره علي تدريس اللغة العربية; فقد عين مستشارا في الدولة الروسية. وظل الشيخ المنتسب إلي مدينة طنطا يقوم بالتعليم والتأليف والترجمة إلي أن توفي في29 أكتوبر1861, فدفن في مقابر المسلمين في ضاحية بولكوفو بالقرب من سانت بطرسبرج. ويدخل قبره في عداد الآثار التاريخية والثقافية في روسيا. وكما كان الشيخ رفاعة الطهطاوي رائدا للمصريين في معرفة أهل باريس بخاصة والفرنسيين بعامة, فإن الشيخ محمد عياد الطنطاوي هو الجد الأكبر لكل المصريين والعرب في التعريف بالثقافة الروسية في تعاقب يبدأ من كتابه تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا ويمضي في سياق يشمل أحفاده وأحفاد أحفاده من الذين جعلوا من الثقافة الروسية والأدب والفنون الروسية زادا للعقول وغذاء للقلوب العربية في تاريخ أصيل من العلاقات الثقافية القوية والعريقة في آن. ولذلك حديث آخر. لمزيد من مقالات جابر عصفور