تعتبر التأثيرية الثورة التمهيدية الأولي للفن الحديث, فمن خلالها تحررت الرؤية الفنية للطبيعة, بعد أن كانت خاضعة للمنهج الكلاسيكي. ولكن ما المقصود بكلمة التأثيرية؟ هل المقصود هو تصوير الأشياء كما تؤثر صورتها في النفس؟ كلا, فتعبير الفنان عن تأثير الأشياء في نفسه لا يمثل مبدأ خاصا بالتأثيرية, بل هو ينطبق علي كل الاتجاهات الفنية التي تغلب فيها النزعة الذاتية علي النزعة الموضوعية. الحقيقة أن الصدفة لعبت دورا في ظهور هذا الاسم. ففي سنة1874 اجتمع ثلاثون مصورا من الذين رفضت أعمالهم في صالون باريس, وقرروا إقامة معرض خاص لإنتاجهم المرفوض. وفي هذا المعرض, الذي ضم لوحات ل( بول سيزان, وأوجست رينوار, وكاميل بيسارو, وإدجار ديجا) عرض كلود مونيه لوحة بعنوان' تأثير- غروب الشمس'. وقد أثارت هذه اللوحة غضب كثير من النقاد, واشتق من اسمها كلمة التأثيرية, لكي تشير إلي الحركة الفنية الجديدة. كانت تلك اللوحة في نظر أولئك النقاد مجرد عرض لتأثير الضوء, ولكن أين الموضوع؟ وأين القصة التي ترويها؟ والواقع أن اللوحة كانت تمثل أسلوبا جديدا في الرؤية ومحاولة لتصوير الضوء باستخدام الألوان, وتسجيلا لانطباعه علي العين كما تراه. وكان الاهتمام بالضوء واللون قد ظهر بعد نتائج الأبحاث التي أعلنها العلماء في القرن التاسع عشر عن نظريات الألوان, وليس من المؤكد أن التأثيريين قد استوعبوا تلك النظريات, ولكنهم بوعي أو بلا وعي استخدموها بطريقة عملية. لقد خرج التأثيريون إلي الطبيعة, يعايشونها لحظة بلحظة. حقا إن الطبيعيين كذلك قد دعوا إلي الخروج من المراسم المغلقة إلي الطبيعة الرحبة, والنقل عن الأشياء مباشرة, ولكن الفارق أنهم كانوا يلتزمون بحرفية الأشياء, وبتحري كل التفاصيل, في حين راح التأثيريون يصورون ما يظهر للعين من الشيء في لحظة بعينها. لقد سعت التأثيرية إلي تفكيك وحدة العالم, ورده إلي مجموعة من الأضواء والألوان, وتسجيله بوصفه مجموعة من المدركات الحسية, ومن ثم ذهب البعض إلي الربط بين اتجاه' التأثيرية' في الفن واتجاه' الوضعية' في الفلسفة. والوضعية مذهب فلسفي بلغ قمة ازدهاره في فرنسا في أواسط القرن التاسع عشر, علي يد الفيلسوف أوجست كونت, وخلاصة دعوته هي أن النظرة العلمية الحديثة تقتضي أن تنحصر رؤية الباحث العلمي في حدود ما هو واقع, أي في حدود ما هو ظاهر لأعضاء الحس وأدوات التجربة, وبذلك تكون ظواهر الطبيعة هي وحدها محل النظر العلمي. بحيث لا تكون العوامل التي تعلل بها حدوث تلك الظواهر إلا مأخوذة من دنيا التجربة البشرية داخل حدود ما هو واقع. وكان أوجست كونت قد ذكر ثلاث مراحل للفكر البشري في تطوره, جعل الرؤية الوضعية العلمية ثالثتها, أما الأولي فهي ما أسماه بالمرحلة اللاهوتية, وأما الثانية فهي ما أسماه بالمرحلة الميتافيزيقية. من هنا تمثل التأثيرية نقطة من أهم نقاط التحول في تاريخ الفن الحديث, وهي النظر إلي الأشياء وإلي الحياة في مجموعها علي أنها في حالة حركة دائمة وتغير مستمر. فكل ظاهرة تمثل حادثا عابرا لن يتكرر أبدا, وموجة يجرفها تيار الزمن, ومنهج التأثيرية في عمومه, وبكل أساليبه وحيله الفنية, يعبر عن هذه الحقيقة ويؤكدها. كانت القاعدة الأساسية في التصوير في القرن التاسع عشر تؤكد علي أن الخط هو العنصر الأساسي في اللوحة, أما اللون فيلعب دورا ثانويا يتمثل في تغطية المساحات بين الخطوط. أما التأثيريون فقد أخفوا هذه الخطوط عبر الألوان, ولجأوا إلي استخدام الألوان الصافية غير الممزوجة, وبدلا من خلط الألوان قبل وضعها في مكانها علي اللوحة, أخذوا يضعونها مباشرة علي اللوحة في شكل لمسات صغيرة متجاورة. فظهرت العناصر التي يرسمونها وكأنها مهتزة متداخلة, بلا حدود فاصلة, لا يستطيع المشاهد أن يتعرف عليها إلا إذا ابتعد عنها مسافة كافية, كي تقوم عيناه باكتشاف حدود الأشكال. وهكذا تم القضاء علي واحد من أهم الدلائل علي المهارة في التصوير قبل التأثيرية, وهو إخفاء آثار الفرشاة, حتي تظهر اللوحة للمشاهد وكأنها اكتملت دفعة واحدة واتخذت شكلها علي سطح اللوحة دون وساطة فرشاة. فالألوان المصقولة والممتزجة في تدرج كانت هي دليل مهارة الفنان وبراعته. ولكن أسلوب التأثيريين في وضع الألوان منفصلة دون امتزاج, أدي إلي ظهور آثار الفرشاة واضحة, ومن ثم تنبه بعض التأثيريين إلي القيمة التعبيرية التي يمكن أن تتحقق من مجرد تعمد إظهار آثار حركة الفرشاة واتجاهاتها, ثم تطور الأمر إلي إنشاء ملامس غليظة علي اللوحة باستخدام السكين في وضع الألوان علي اللوحة بدلا من الفرشاة, وأصبحت هذه الملامس من العناصر الجمالية التي يهتم الفنان بتحقيقها. هكذا, انحصر اهتمام التأثيريين في نقل انطباعهم اللحظي بالمنظر إلي اللوحة, ولم يسيروا في أهدافهم إلي أبعد من هذا التسجيل للأثر اللحظي. وقد مثل هذا الاتجاه انقلابا في الفن, لأنه أهمل' موضوع العمل الفني' الذي كان يحتل مكانا بارزا تدور حوله المعارك بين الكلاسيكيين والرومانتيكيين والواقعيين. واكتفي الفنان التأثيري بأن يحصر كل همه داخل إطار اللوحة, مكتفيا بتحقيق شكل شاعري جميل وجذاب. بذلك حررالتأثيريون الفن التشكيلي من الموضوع ومن كل معني يمكن أن يصاغ بكلمات, وأصبحت وسيلة تلقي هذا الفن وتفهمه هي العين لا العقل. فقد دأب الناس علي أن يتساءلوا: ماذا يريد الفنان أن يقول؟ أو ماذا يقصد الفنان من هذه اللوحة؟ وهم بذلك يبحثون عن معني يحدد في كلمات. أما التأثيريون فإنهم يرفضون هذا التساؤل, لأنهم حين يلجأون إلي التصوير لا يريدون أن يقولون كلاما, وإلا لكتبوا ذلك في شكل من أشكال الأدب, بل يريدون أن يسجلوا انطباعا. وهكذا حرر التأثيريون الفن التشكيلي من اللغة المتكلمة, وحاولوا أن يستكشفوا لغته الخاصة. وكان هذا حدثا في تاريخ الوعي بالغ الخطورة, لا بالنسبة للتأثيريين وحدهم, بل بالنسبة لسائر الحركات والمذاهب الفنية التي أعقبتهم, والتي لا تزال تظهر من حين إلي آخر في عصرنا. لمزيد من مقالات د. جلال الشايب