وأنت تقرأ كلاما قاله السيد عمرو موسي, رئيس لجنة الخمسين لإعداد الدستور, عليك أن تكون في منتهي الحذر, وربما يكون من الفطنة أن تضع بجانبك ورقة وقلما, لأنك حتما ستضطر اضطرارا لتفكيك النص ثم إعادة تركيبه كي تفهم ما بين السطور. عمرو موسي, إلي جانب كونه دبلوماسيا مخضرما, شرب من الدبلوماسية حتي شبع,( وكلام الدبلوماسيين كما تعرفون حمال لألف وجه!) فإنه أيضا مولع باللغة العربية, حاطط يده علي ألاعيب ألفاظها.. فتعالوا نلعب مع أحد نصوص موسي لعبة الفك ثم التركيب: فأما النص فهو الحوار الذي أجراه السيد موسي مع الأهرام قبل أربعة أيام, وأما اللعبة( والحياة كلها لعب!) فهي ليست ما قاله عمرو موسي في الحوار, بل مالم يقله. خذ سيادتك نفسا عميقا, ثم اقرأ هذا الشطر. قال موسي: يوجد إنفاق كبير في الميزانية الحالية علي نواح عديدة بلا ضرورة.. إلخ.. إلخ, إلي أن يقول: إن تصحيح هذا الوضع مثل إجراء عملية جراحية في المخ, أحيانا تكون عملية مميتة, ولكن لابد منها هذا ما قاله, فما الذي لم يقله؟ لعله أراد أن يقول مثلا: مافيش أمل, أو أراد التحذير من أن المريض ميت ميت, أو لا تنتظروا تحسنا في القريب العاجل إذ حالتنا الآن تصعب علي الكافر, الرجل لم يقل كل هذا, بل تركنا نحن نفهم ما نريد أن نفهم.. وإلا فلماذا اختار جراحات المخ تحديدا؟ ألا تشعرون في نبرة الكلام بمسحة يأس ما؟ ثم انظر سيادتك إلي قول الدبلوماسي المخضرم, عندما سأله المتحاورون عن الباب الذي أضناه أكثر من غيره في أثناء عمل الخمسين, لقد أوضح أنها مواد باب السلطة القضائية, وقال: إن هذه المواد أخذت مني وقتا وجهدا لم أكن أعتقد أنه يصح حصوله معهم.. بس خلاص!!. وهنا قد يعن لك, وأنت تقرأه أن تتساءل عن معني بس خلاص. هل هناك حقا ضغوط مورست من السادة القضاة؟ وهل كان يصح أن تمارس من فئة هم سدنة القانون وحراس بوابته؟ أم أن القضاة كان يجب أن يفعلوا ذلك حفاظا علي استقلالهم, ومن ثم استقلال العدالة؟ موسي لم يقل شيئا, فقط قال بس خلاص!, ولتفهم يا باشا ما تريد أن تفهم! تعال أنا وأنت إلي الجزء الذي قال فيه العليم ببواطن اللغة: المزاج الشعبي متوجه نحو تأييد الفريق السيسي, ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك, فهل أنت يا سيدي مع ترشيحه؟ لم يجب موسي بل قال: لست جزءا من هذا الحديث. إجابة في منتهي الذكاء, لكنها تفتح الباب لجحافل من الأسئلة: هل نما إلي علمك فعلا يا سيدي أن السيسي سوف يترشح فعلا لكنه ينتظر من الناس أن تطلبه بالاسم, إذ ان طالب الولاية لا يولي؟ وهل نلمح في طيات كلامك بشري بأن السيسي قادم قادم؟ طيب.. وإذا جاء, فهل ينجح هو دون غيره في إجراء جراحة المخ التي تحدثت عنها؟ موسي لم يجب, وألقي بالكرة في ملعب المزاج الشعبي, وكأنما أراد أن يصرخ فينا: إبعدوا عني أرجوكم.. فالكرة في ملعبكم أنتم!. أيضا, قال السيد عمرو موسي إن نسبة ال50% للعمال والفلاحين انتهت إلي أن ممثلي العمال في البرلمان صوتوا لصالح تفكيك القطاع العام, كما أن ممثلي الفلاحين رقصوا علي مدرجات البرلمان عند إقراره قوانين كانت بداية تفكيك قانون الإصلاح الزراعي. هذا ما قاله.. فما الذي لم يقله؟ هل نفهم مثلا, أنك مازلت مؤيدا لبقاء القطاع العام ليقود هو دفة التنمية بالمجتمع؟ وأنك مع استمرار الإصلاح الزراعي؟ ومن ثم تكون السياسات المتبعة حاليا بعيدا عن القطاع العام وعن الإصلاح الزراعي هي سياسات خطأ, ويجب مراجعتها؟ أم أن الزمن قد تجاوز كل ذلك؟ هل تريد أن تقول مثلا إن العمال والفلاحين مازالوا مظلومين حتي الآن رغم لعبة البرلمانات والانتخابات والدساتير؟ وهل كنت تقصد أن تقول: أنتم داوشين أنفسكم علي إيه.. روحوا شوفوا العمال والفلاحين الحقيقيين بيحصلهم إيه هذه الأيام؟ لا.. إن موسي لم يقل كل هذا, وتركنا نحن نقول, وكأن لسان حاله يكرر مقولة المتنبي: أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم. علي فكرة.. عمرو موسي يحب المتنبي, وكثيرا ما استشهد بأبياته عندما كان أمينا عاما لجامعة الدول العربية. علي كل حال, فإن نص عمرو موسي نقصد حواره مع الأهرام مترع بالكلام الذي لم يقله, وبما بين السطور, فأعيدوا قراءته. لكن عليكم أن تتذكروا أنه ليس كل ما يعرف يقال, وأن سوء الظن( عند قراءة النصوص) من حسن الفطن! لمزيد من مقالات سمير الشحات