في مقال سابق لي بعنوان' عن الجدل بين الهوية والعقلانية'( نشر علي هذه الصفحة الأسبوع الماضي) قلت أن الصراع الدائر حاليا في بلادنا بين ما يسمي بتيار الإسلام السياسي, وما يسمي بالتيار الليبرالي أو العلماني, يمكن تشخيصه علي أنه صراع بين المنادين بضرورة الدفاع عن' الهوية' والمنادين بالدفاع عن' العقلانية' ومع ذلك فما أكثر الأخطاء التي يرتكبها هؤلاء وهؤلاء, ليس فقط فيما يستخدمه كل فريق من أساليب العنف ضد الآخر, بل وحتي فيما يتعلق بتصدر كل فريق للقضية التي يدافع عنها. ولنبدأ في هذا المقال, بطريق الدفاع عن الهوية. نعم, ما أجمل أن تتمسك كل أمة بما تسميه' ثوابتها' مثل عقيدتها, أو ترفض تحقير لغتها, أو السخرية من عاداتها وتقاليدها. أن دفاع أي أمة عن الثابت من عقائدها وعاداتها ينطوي في الحقيقة علي الدفاع عن وجودها نفسه, والتهاون في هذا الدفاع موقف كريه كقبول الذل والخضوع لإرادة الغير. هذا صحيح بلاشك, ولكن ما هي بالضبط حدود هذه' الهوية' التي يجب الدفاع عنها؟ وكيف نميز بين الثوابت التي يجب التمسك بها والمتغيرات التي يمكن قبولها؟. المفترض أننا ندافع عن الهوية باسم الدفاع عما يميز شخصيتنا القومية عن غيرها, عما هو عزيز علينا من عاداتنا وتقاليدنا, ليس فقط ما طال عهدنا به, ولكن لأننا نعبر بشخصيتنا هذه عن أدق مشاعرنا, فلماذا يريد بعضنا أن يحتكر هذه الشخصية وينكر علي البعض الآخر اشتراكهم في تكوينها؟ لماذا يصر بعضنا علي استبعاد فترات عزيزة من تاريخنا بزعم أنها لا تعبر عن شخصيتنا والاقتصاد علي تمجيد فترات أخري بزعم أنها وحدها التي شكلت وجداننا؟ لماذا لا نبدأ, بدلا من هذا, من الواقع الذي نعيشه ونعترف بأن هذا الواقع قد ساهمت في تكوينه حقبات تاريخنا كله, الفرعوني والقبطي والإسلامي, فنعترف بنصيب كل حقبة في تشكيل الهوية التي نصر علي الدفاع عنها؟. إن هذا الإصرار علي استبعاد بعض حقب تاريخنا, والاقتصاد علي بعضها الآخر لا يمكن تبريره بأن العبرة بالأحدث لأنه الأقوي تأثيرا إذ أن هذا البعض الذي يستبعد حقبا تاريخية قديمة ولا يعترف بدورها في تشكيل الهوية, فيهدم التماثيل والكنائس مثلا, يستبعد أيضا حقبا أخري حديثة, جاءت بعد اتصالنا بأمم وحضارات أخري, فساهم هذا الاتصال في تكوين وعينا وأضاف إلي مخزوننا العاطفي والفكري ما نعتز به ونفخر به, مثل إنتاجنا الثقافي من فكر وأدب وموسيقي وغناء ومسرح وسينما.. الخ, خلال القرنين التاليين لاتصالنا بالحضارة الغربية الحديثة. إن بعضنا لا يقتصر علي استبعاد بعض' ثوابتنا' دون وجه حق, بل يصر علي أن يعتبر من بين هذه الثوابت أشياء لم تعد كذلك, عشناها دهرا ثم هجرناها, كانت من بين عاداتنا في فترة ما ثم دفعنا تغير الظروف دفعا إلي الإقلاع عنها, ما هذا الإصرار مثلا باسم التمسك بالهوية, علي إحياء تعبيرات وألفاظ قديمة, كانت تستخدم في الماضي ثم أقلعنا عنها, ولم تعد تحدث تأثيرا في نفوسنا بل وربما أصبحت غير مفهومة لنا, ومن ثم يصبح إعادة استخدامها مثال للسخرية والاستهزاء؟ ولماذا لا نعترف بأن اللغة القومية, وإن كانت من الثوابت, إلا أنها تتعرض للتغير والتطور فيسقط من مفرداتها وأساليبها ما يسقط, ويضاف إليها الجديد الذي قد يصبح أقدر علي التعبير عن عواطفنا ونمط حياتنا؟ أو فلننظر إلي ما يعتبره البعض من' الثوابت' من أنواع الزي, أو أساليب التخاطب بين الناس, أو مصادر الترفيه عن النفس, مما كان شائعا أو مستخدما في فترة ما في الماضي, تلبية لحاجات كانت موجودة لأسباب تتعلق بالمناخ أو الظروف الاقتصادية والاجتماعية ثم تغيرت هذه الظروف, فلم تعد هذه الأساليب هي الأكثر تعبيرا عن مشاعرنا واحتياجاتنا؟. ثم ما هذا الخلط المدهش بين مكونات الهوية القومية وهوية قوميات أخري بحجة اشتراكها جميعا في عقيدة واحدة؟ فإذا كان التمسك بالهوية يستند إلي اعتزار المرء بنفسه ووطنه, فلماذا يتنازل المرء عن الاعتزاز بكل ما يميزه عن غيره فيما عدا العقيدة الدينية وحدها, مع أنها ليست إلا جانبا واحدا من جوانب التميز, ومن ثم تتنازل عما يجمعه مع أفراد آخرين من نفس أمته, يشتركون معه في كل ما يميزه عن غيره إلا الدين؟ لماذا ينكر البعض هذه الحقيقة الناصعة: وهي أن الشخصية المصرية( التي هي أساس الهوية) تختلف كثيرا عن شخصية الباكستاني أو الإندونيسي, ليس فقط في مختلف جوانب الحياة غير الدين, بل وحتي في تفسير الدين الإسلامي نفسه, حيث أن التفسير الذي يعطي للدين, وليس الدين نفسه, هو الذي يدخل في تكوين الشخصية, بينما تنتمي العقيدة الدينية إلي مجال الفكر والإيمان, وهذا هو السبب الذي يجعل من تفاهم المصري المسلم مع المصري القبطي مثلا علي مستوي السلوك اليومي العادي, أوضح وأقوي من التآلف والتفاهم بينه وبين الباكستاني أو الأندونسي أو التركي المسلم؟. ما الذي يجعل بعض المتمسكين بالدفاع عن الهوية يتصورون أن هذا الدفاع يجوز من أجله التنازل عن العقلانية؟ أن الموقف العقلاني يمكن حقا أن يؤدي بالمرء إلي التنازل عن بعض القديم, ولكن لماذا نعتبر كل القديم' تراثا يجب أن نتمسك به وندافع عنه؟ أن' التراث' الجدير حقا بالتمسك به هو ذلك الذي لا يتعارض مع حكم العقل, فإذا بدا بينهما تعارض وجب البحث عن تفسير' للتراث' يتفق مع حكم العقل, فإذا استعصي العثور علي هذا التفسير فإن هذا القديم لا يجب أن يوصف بأنه' تراث'. من الأمثلة علي ذلك موقف البعض في مطلع القرن العشرين من الماء الذي يجري في أنابيب ويصلنا عن طريق الحنفية( أو الصنبور) واعتبارهم استخدام هذا الماء في الوضوء حراما ومرفوضا وقد تعرض الشيخ محمد عبده للتهديد بالقتل لأنه أجاز بل أوجب هذا الاستخدام, عندما رأي أن اشتراك مجموعة من الناس في الوضوء بماء راكد يعرضهم للأمراض, فأين هو' التراث' هنا الواجب الحفاظ عليه؟ وأين هي الهوية؟. لمزيد من مقالات د. جلال أمين