عرف الإنسان الرقص منذ زمن بعيد, لما يتسم به هذا الفن من سمات دلالية ورمزية تختزل العديد من الفنون البصرية والمرئية الأخري, كالنحت, والتشكيل, والمسرح, والسينما.. وحتي الفنون السمعية والقولية, كالموسيقي والشعر.. وقد عرف عن قدماء المصريين إهتمامهم بالرقص, فظهرت في نقوشهم علي جدران المعابد رقصة التحطيب, التي انتقلت إلي كثير من الحضارات الأخري لما تحمله من معان تحث علي المروءة والتسامح. سعي المهتمون, علي مر العصور, إلي تطوير هذا الفن, فانتشرت في مدن العالم أنماط ومدارس الرقص التي تبحث عن حرية ما, ربما حرية الجسد المثقل بالهموم, المتشبث بالأرض, أو حرية التواصل مع الآخرين بقطع النظر عن اختلاف الألسن واللهجات.. فللرقص لغة أخري, تتجاوز الجغرافيا والأبجدية. وإذا كانت مدارس وفرق الرقص المختلفة تعبر عن إتجاهات فنية متباينة; إلا انها جميعا تعمل علي توظيف الجسد والإستفادة القصوي من مكوناته, مثل طول وحركة الساعد والساق, واتساع الخطوة أو تكرارها, وإيماءة الرأس, وحركة الراقصين علي المسرح.. إلخ. وهو ما يجعلنا نفرق بين فن الباليه مثلا- ورقص الدراويش. مع تطور فن الرقص باتت هناك فرق الباليه الراقية وفرق الرقص الحديث التي تتميز بإبداع جسدي وحركي غير مسبوق وإخراج عبقري يجعل أجساد الراقصين كالفراشات وهم يتمايلون ويحلقون ويدورون في خفة ورشاقة تخلق الفراغات في فضاء المسرح ودون الهجس بجاذبية الأرض, وهذه كان جمهورها من النخبة والطبقة الأرستقراطية. ويتطلب عرض الباليه, بمختلف مدارسه( مثل الكلاسيكية والرومانسية.. وغيرهما), إلي إمكانيات خاصة يجب توفرها في المسرح. وظهرت فرق ورقصات تتوجه للبسطاء والمهمشين وحتي الدراويش منهم, تعبرعن أحلامهم وطموحاتهم وهمومهم اليومية وتصور بيئاتهم الشعبية. أصبح لبعض هذه الفرق سماتها الخاصة والمتجاوزة, لأن يكون إتجاهها الفني خاويا أو مجردا إلا من حركة الراقصين, إلي آفاق أبعد; فتجلت في أعمالها ظواهر فنية لافتة ترتكز إلي أبعاد متباينة وتتجذر بيئيا أو أيدويولوجيا, ومنها تلك العروض الفنية الراقصة التي تحاكي يومياتهم والحرف الشعبية التي يعملون بها, أو اهتماماتهم الدينية مثلما يتحول الرقص إلي وسيلة للتقرب ووسيلة للفناء في حضرة المحبوب.. في هذا السياق أخذ الرقص المعني بالبسطاء والمهمشين عبر ثلاثة تجاهات مختلفة: رمزي, وأيدويولوجي, وبيئي أو( قومي), ولا يمكن أن نرصد أي من أشكال الرقص الأخري الموجه للبسطاء والمهمشين خارج هذه الإتجاهات, باستثناء ما قد يبدو من رقص الصبية والفتيات في الإحتفالات والمناسبات الخاصة ويكون عادة في أشكال ارتجالية لا يعتد بها. سنجد البعد الرمزي يكرس لقيمة البطل الشعبي ويؤكد علي الإنتماء والتسامح, وقد انتشرت في عالمنا العربي العديد من الفرق الشعبية التي تحمل هذا الإتجاه, مثل رقصة التحطيب التي تعد أحد أشكال الفلكلور المصري, حيث نشأت في مصر الفرعونية وتطورت في الصعيد جنوب مصر, ثم انتقلت إلي كثير من الحضارات, مثل:' الكيندو' الياباني, والمبارزة القديمة في معظم الحضارات الغربية, والتي تتشابه طقوسها وأخلاقياتها مع الجذور القديمة للتحطيب الفرعوني. وهي تجسيد لقيمة البطل الشعبي, الذي يواجه التحدي ويحقق الإنتصار للجماعة وليس لشخصه, ويمكن إستيعاب معانيها وقيمها بشكل أعمق من خلال السير الشعبية وخاصة سيرة بني هلال. وفقا للمراجع التاريخية, فقد بدأ التحطيب في مصر كرياضة بالعصا, يمارسها الشباب من جميع طبقات المجتمع. وبدلا من العصي الخشبية كانوا يستخدمون لفافات البردي الكبيرة حتي لا يصاب المتبارين بالأذي. وتشترك الثقافة البدوية مع الصعيدية في تقديم شكل خاص للتحطيب حيث يمتطي رجلان الخيل, ويرقصان علي الطبل والمزمار, ثم تبدأ المنافسة. في نفس الإتجاه الرمزي, ظهرت مبكرا في منطقة الخليج العربي رقصة' العرضة' كأحد أنماط الرقص الشعبي البدوي, وتؤديه الكثير من الفرق طوال العام, لاسيما في المناسبات الإجتماعية والأعياد. وتحمل' العرضة' بعدا رمزيا ودلاليا للكثير من المعاني, مثل: قيم الفروسية والإنتماء للوطن والدفاع عن الأرض, وتتميز بالرقص بالسيف وارتداء الزي الخليجي. فيما يتجلي البعد الأيدويولوجي في الرقص الصوفي عند فرقة التنورة للفنون الشعبية في مصر وفرقة المولوية التركية. في هذا الإتجاه يرسم الراقصون أو الدراويش أشكالا لها دلالاتها التي تتماهي مع حالات الوجد الصوفي والعشق الإلهي.. يقول الشاعر الألماني فريدريش روكيرت' من يعرف قوة الدوران, يحيا بالخالق, لأنه يعرف كيف يكون القتل بالعشق', وفي رقص التنورة نجد الراقص سابحا في عالمه الخاص وكأنه يمارس طقسا دينيا, حيث يقوم بالدوران حول النفس طوال مدة العرض, يتصاعد إيقاع الموسيقي ويبدو وكأنه نسي الأرض وتعلق قلبه بالسماء.. هي حالة من الوجد الكامل يتخلص فيها من مادية الأرض وقد تحدي جاذبيتها, كذلك في الرقص المولوي, الذي قالت عنه المستشرقة الألمانية آن ماري شيمل في تقديمها لكتاب' الرومي ودراويش المولوية' لشمس فريدلاندر:' العشق يعني الذوبان في الذات, من أجل البعث في المعشوق, ويمكننا أن نفسر رقصة دراويش المولوية علي هذا النحو. إنهم يدورون حول مركز الشمس, شمس العشق الإلهي. إنهم يذوبون كالشمعة التي تنصهر بالنار حتي تضيء لآخر قطرة شمع'. والمولوية هي إحدي الطرائق الصوفية السنية وتعود الي مؤسسها الشيخ جلال الدين الرومي. أما البعد البيئي فيرتكز علي استلهام الفنون والمهن كما عند' فرقة رضا للفنون الشعبية' التي قدمت أعمالا عن ريف وسواحل وصعيد مصر والواحات وبدو سيناء برؤية مختلفة للرقص الشعبي, مستعينة بملابس معبرة عن البيئة الشعبية, فجاءت أعمالها من الواقع حينا ومن استحضار التراث الشعبي لتلك البيئة حينا آخر, ارتكزت عروضها علي عادات الناس وتقاليدهم المهنية, فظهرت إيماءات الصيادين بسواعدهم وأجسادهم وهم يرمون الشباك وبدت حركات الفلاحين والبدو في بساطة وتلقائية. وساهم في النجاحات الكبيرة التي حققتها انها قدمت الي جانب الرقص الشعبي الأغنية الشعبية المعبرة عن روح المكان. لمزيد من مقالات طارق حسان