في خضم هذا الحراك السياسي والاجتماعي نطرح هذا المشروع للنقاش بين المثقفين والمهتمين بقضايا التعليم والمعرفة والتنمية البشرية بقصد إثارة الشعور العام بمدي حاجة البلاد لمشروع كهذا في السنوات المقبلة. أجيال من أبناء مصر عاشوا عقودا من الزمن في قحط ثقافي وتدهور تعليمي لم تر مصر له مثيلا منذ ما قبل عهد محمد علي باشا. كانت البداية من بعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر وتولي أنور السادات رئاسة البلاد وانقلابه علي نظام عبد الناصر. وجاء محملا بالشك والخوف من الثقافة والمثقفين وظن انه سوف يواجه معارضة من القوي الوطنية, وفي طليعتها المثقفين. ولكي يقاوم تأثير هؤلاء من أجل تمرير سياساته تساهل مع تيار الإسلام السياسي وفتح لهم الأبواب في أجهزة الإعلام وفي الجامعات فأطلقوا عليه أو أطلق هو علي نفسه لقب الرئيس المؤمن ثم تحول الشك والريبة في المثقفين إلي العداء فأخذ في تحجيم النشاط الثقافي في كل المجالات وتصفية المنجزات التي حصل عليها الشعب إبان المرحلة الناصرية فطالت إجراءاته الهدامة تلك دور النشر والترجمة ومؤسسة المسرح والمجلات الثقافية والإنتاج السينمائي القومي وحتي البرنامج الثقافي في الإذاعة المعروف بالبرنامج الثاني لم ينج من العبث والتخريب ثم جاء الدور علي الثقافة الجماهيرية لتحجيمها وتقييد نشاطها وحصرة في حدود معينة وهذا الجهاز الثقافي الجماهيري هو ما يعنينا في هذا الصدد وسوف نأتي إليه لاحقا. ارتبط عداء السادات للثقافة والمثقفين بتوطيد صداقته مع أمريكا وتوقيعه معاهدة كامب ديفيد, ومع استمرار التضييق والخناق وتوجيه الاتهامات والتشكيك اضطر شعراء وأدباء وفنانون وصحفيون وأساتذة للهجرة إلي بعض البلاد العربية والأوروبية وانتهي به الأمر إلي اعتقال1536 من خيرة المصريين اغلبهم من كبار المثقفين في سبتمبر1981. ودخلت مصر مرغمة في عصر استشراء الفساد وراحت نهبا وضحية لسياسات البيع والتنازل والتصفية و التفكيك ثم الإهمال والتآكل انه عصر التجريف.. لحق التجريف كل مؤسسات الدولة ومرافقها تقريبا ولم يسلم منه الإنسان الذي ترك بلا تعليم جيد ولا رعاية صحية تليق به كإنسان مصري فتحول التعليم إلي استثمار وتجارة وكذلك العلاج ومن يريد الحصول علي تعليم جيد او رعاية صحية آمنة عليه ان يدفع أكثر. وأصاب الثقافة ما أصابها من كل هذا فتغيرت فقط من حيث الشكل والمظهر ولم يحدث تغيير حقيقي في الجوهر فشاهد الناس في التلفاز الحفلات الرئاسية باهظة الإنفاق والمهرجانات المظهرية أو الدعائية وانحصر النشاط الثقافي في أماكن مغلقة في القاهرة بل يكاد يكون في منطقة وسط القاهرة فقط. أما الغالبية العظمي من المصريين في المدن الإقليمية وفي القري والنجوع فلم ينالوا إلا الفتات وان وجدوه.. ميزانيات فقيرة محدودة لا تفي بحاجة الإنتاج الثقافي وبيروقراطية معوقة لأي نشاط حتي لو كان بسيطا او صغيرا وأماكن خربة أو شبه مهجورة أو أبنية أقامها مقاولون بلا فن معماري وبلا شروط أمان وسلامة ولن ننسي جميعا حادث مسرح بني سويف المأساوي وسنظل نذكر شهداء المسرح الذين احترقوا فيه. آلاف من الشباب العمال والموظفين وطلبة المدارس والمعاهد والجامعات في أحياء المدن وفي المحافظات والمراكز والقري طامحون لممارسة هواية النشاط الفني والأدبي فيحبطون وتتحطم أحلامهم عندما يواجهون بيروقراطية الموظفين وتعسف وإرهاب رجال الأمن. لقد خضع النشاط الثقافي في العاصمة كما في الأقاليم لأشراف أجهزة الأمن. استمر وزير ثقافة مبارك في منصبه لمدة23 عاما وكان يفخر بأنه نجح في إدخال المثقفين حظيرة النظام, واعتبر هذه أهم إنجازاته والحقيقة أن النظام استطاع أن يدجن عددا ليس بالقليل من المثقفين منهم من التزم الصمت اوهادن ومنهم من عمل في خدمة النظام وقبض الثمن وبقي المثقفون الأحرار يقاومون ويبدعون ويحفظون ذاكرة الأمة رغم محاولات الإقصاء والتهميش والتعتيم والتيئيس والتسويف. في عهد هذا الوزير ورئيسه: الملايين من الشبيبة والشباب تركوا لسنوات في هذا التصحر الثقافي والمعرفي الموحش فلا تعليم جيد ولا تربية ثقافية متقدمة.. راح الشباب نهبا للتسلية الرخيصة في السينما التجارية والتليفزيون وفي الفضاء الالكتروني وعلي المقاهي ونواصي الشوارع وتملكتهم القيم الاستهلاكية والتطلعات المادية فدفعتهم إلي الهروب مسافرين في البحر أما الجادون منهم الباحثون عن قيمة وانتماء فقد لاذوا بالمسجد والكنيسة ووقع منهم من وقع في براثن التطرف الديني وجماعات الإسلام السياسي وأخيرا جماعات التعصب الكروي. وهكذا كتب التاريخ علي هذا الوطن أن يجني هذا الحصاد المر في أبنائه. الثورة التي لم تحسم أمرها بعد ربما تكون قد فتحت أمامنا نوافذ الأمل ننظر منها ونطل علي المستقبل فنجد أمامنا المشروع القومي النهضوي: دلتا جديدة لمصر( دكتور رشدي سعيد) ممر التنمية( دكتور فاروق الباز), إعادة توزيع السكان, عاصمة جديدة لمصر, إنقاذ الدلتا, إصلاح التعليم, بناء قلعة الصناعة.. الخفيفة, المتوسطة, الثقيلة هذا المشروع القومي الكبير لا يمكن أن ينهض إلا بقيام الدولة الجديدة وفي القلب منها جيش وطني قوي عالي التدريب جيد التعبئة جاهز لمواجهة كل التحديات. دولة يقف في طليعتها قادة ورجال يؤمنون حقا بمصر دولة ديمقراطية حديثة دولة العدالة والقانون والعدل الاجتماعي والاستقلال الوطني. اليوم أصبح يستقر في وعي كل مواطن أن مصر يجب أن تنهض وتعوض ما فاتها وتتبوأ مكانها الذي تستحقه تحت شمس القرن الحادي والعشرين. لكنها لن تنال النهضة المنشودة الا بالتنمية الشاملة وبالمشروعات القومية الكبري وهذه المشروعات تحتاج إلي رأس المال البشري قبل حاجتها لرأس المال المادي تحتاج الإنسان وهذا يعني أنها تحتاج أولا الي الروح التي ينبع منها الفكر والطاقة والاختراع والابتكار والعزيمة والإبداع. هذا التحدي يستوجب بناء إنسان جديد إنسان يعرف أين يعيش والي من ينتمي. وهنا يأتي دور الثقافة والمعرفة. إن الثقافة ليست أبدا ترفا, فهي المكون الأساسي في بناء شخصية هذا الإنسان وهي التي تساهم إلي حد بعيد في تكوين هويته وتأكيد انتمائه لوطنه وتحديد علاقته بالعالم الذي يعيش فيه. ألا يستحق هذا الوطن مشروعا ثقافيا ومعرفيا؟ مشروع يحتاج لجهد مشترك من مجموعة من المتخصصين يقومون بدراسة الخريطة الاجتماعية والسكانية لعموم مصر. ودراسة الدور الذي أدته المؤسسات الثقافية الشعبية والجماهيرية, ثم الإطلاع علي التجارب المماثلة في العالم والاسترشاد بها والاستفادة منها كلما أمكن ذلك. لمزيد من مقالات عبد العزيز مخيون