يخطئ من يعتقد أن الثقافة المصرية لا تحتاج إلي ثورة حقيقية تمتد بطول البلاد وعرضها.. فكما استطاعت ثورة 52 يناير أن تسقط النظام.. فلابد لنا من ثورة قادرة علي إسقاط النمط التقليدي للتفكير في مستقبل الثقافة المصرية.. ثورة غير قابلة للسرقة أو الاستيلاء علي مكاسبها.. ويخطئ من يتوهم أن باستطاعته اختزال هذه الثورة بالاحتكام إلي جماعة المثقفين المقيمين بوسط القاهرة مع كامل الاحترام والتقدير لهم جميعا فهم أصدقاء أعزاء فالنخبة الثقافية قد تصلح لقياس نبض الشارع الثقافي القاهري إن جاز التعبير ولكنها لا تستطيع أن تعبر منفردة عن طموحات ثقافة وطن بأكمله باتساع مصر وعمق تراثها.. فوطن مثل مصر يمتلك كل هذا الزخم وهذا التنوع لا يمكن أن يعبر عنه نخبة القاهرة وحدهم.. ويخطئ من يعتقد أن ثقافة مصر تبدأ من «الأتيليه» وتنتهي بمؤتمر صحفي بالأوبرا.. فهذا اختزال مخل لدور وزارة الثقافة المصرية في مثل هذا المنعطف التاريخي الهام.. فإذا كنا حقيقة في ثورة فهناك قوي كثيرة تتحرك بحرية تامة في اتجاه مضاد لهذه الثورة.. دون أن تكون من القوي المضادة.. ولكن بهدف الاستيلاء علي الثورة لصالحها.. فما أحوجنا الآن إلي مشروع قومي للثقافة المصرية.. مشروع يسهم في وضع رؤاه وصياغته كل مثقفي مصر علي امتداد الوادي من الإسكندرية لأسوان.. ومن السلوم إلي رفح.. ومن السويس إلي حلايب وشلاتين.. ومن جنوبسيناء إلي شمالها ومن واحة سيوة إلي الوادي الجديد.. ف«جماعة المثقفين» لا تمثل كل هؤلاء ولا تعبر عنهم لأن مشاكلهم مختلفة تماما.. لذا يجب أن يكون هناك مشروع قومي يرد لهذا الشعب هويته التي انتزعت منه عبر سنوات الهجرة إلي بلاد النفط وعاد إليها بجلباب أفغاني قصير وعباءة سوداء وثقافة مشوهة.. مشروع ثقافي يرد لهذا الشعب وعيه الذي غيب علي مدي ثلاثين عاما من التجريف الثقافي المتعمد.. بيعت خلاله السينما المصرية بالجملة.. أفلاما ودور عرض.. وسقطت بين أنياب إمبراطور الإعلام الصهيوني «روبرت مردوخ» عن طريق شريكه العربي الوليد بن طلال.. وتقلص عدد مسارح الدولة إما بالهدم أو الإغلاق أو الحرق.. ونهبت خلاله آثار مصرية لا تقدر بمال.. ثلاثون عاما أكل خلالها نظام مبارك الفاسد ثلاثة أجيال من خيرة النخب والكوادر الثقافية المصرية.. فهُمش من هُمش.. ومات من مات غيظا وكمدا أو احتراقا وهما.. بعد أن اقتصر تداول السلطة الثقافية علي نفر قليل من القيادات الثقافية الرسمية حتي ناءت كواهلهم بما حملت من مراكز ومناصب عديدة.. وقد كتبنا عن ذلك في التسعينيات وذكرت بالاسم «د. فوزي فهمي» تحت عنوان: «هل خلت مصر من رجالها» وذلك عندما تولي منصب رئيس هيئة قصور الثقافة إلي جانب رئاسته لأكاديمية الفنون ومهرجان السينما الروائية ومهرجان المسرح التجريبي واللجنة العليا للمهرجانات.. بالإضافة إلي عضويته في عشرات اللجان الأخري.. وليس هذا قدحا في أحد.. فبعض هذه القيادات كانت جيدة ولكن «لايكلف الله نفسا إلا وسعها». •• ثلاثون عاما غاب فيها التنسيق وتنظيم التعاون بين وزارات الدولة ومؤسساتها المعنية برعاية وصياغة ثقافة ووعي ووجدان هذا الشعب.. فما أحوجنا اليوم إلي مشروع ثقافي قومي تتضافر فيه كل الجهود بين وزارة الثقافة والإعلام والتعليم والشباب والأوقاف والأزهر الشريف.. مشروع يحمي وعي الشعب المصري وثقافته السمحة العريقة المتحضرة من هذه الهجمة الشرسة الضارية من أصحاب '' غزوة الصناديق وتقطيع الآذان والأيدي والجلد والرجم والتكفير ودفع الجزية وتحطيم الأوثان «الآثار» وأضرحة أولياء الله الصالحين وشرطة تغيير المنكر''.. ثلاثون عاما أسند خلالها ملف التطرف لوزارة الداخلية وانفرد به جهاز مباحث أمن الدولة ليتصرف فيه علي هواه بعنف لا يغتفر.. وجبروت وتسلط لم يخلف لنا إلا نفوس مرضت خلف أسوار المعتقلات وسراديب التعذيب.. فخرجت متعطشه للانتقام والاستبداد والدماء.. ثلاثون عاما تُركتْ فيها عقول المصريين نهبا لكل من هب ودب ليملأها بما يراه من الخزعبلات والثقافات الهابطة.. وتفرغت العديد من مؤسسات الدولة للاحتفاليات والمهرجانات والاستعراضات الدعائية.. وقد كتبت عن ذلك مرارا تحت عنوان: «ثقافة الفقراء وثقافة الخمس نجوم».. وذلك بعد احتراق مسرح بني سويف .. إذ شرفت يومها بعضوية لجنة موسعة من خيرة المثقفين المصريين لمناقشة كل سلبيات ومشاكل هيئة قصور الثقافة بعد أن كلف فاروق حسني د . أحمد نوار برئاسة الهيئة وبحث نواحي القصور بها.. وانتهت اللجنة من دراسة كل السلبيات والمشاكل.. وتشكلت لجنة لصياغة نتائج هذه الجلسات الموسعة من: «الفنان عز الدين نجيب ، د.أحمد مجاهد، وكاتب هذه السطور» وقدمنا تقريرا مطولا لما انتهت إليه اللجنة تضمن توصيات محددة غاية في الأهمية وقمنا بزيارة معظم المواقع الثقافية مع د . أحمد نوار لدراسة المشاكل علي الواقع والاستماع إلي شهادات أصحاب المشكلة في أكثر من 517 موقعًا ثقافيًا علي امتداد أرض مصر.. وكانت أهم المشكلات تتلخص في ثلاث نقاط رئيسية : الأولي: هي نقص الاعتمادات المالية وربما انعدامها في بعض المواقع. والثانية: غياب الكوادر الثقافية المتخصصة وفقر الفكر الإبداعي. والثالثة: غياب المشروع الثقافي القومي الشامل. •• عدت بعد هذه الجولة الرائعة والمحزنة في ذات الوقت لأكتب عن ثقافة الخمس نجوم تحت سماء القاهرة وثقافة الفقراء في القري والنجوع . ففي الوقت الذي كانت تستضيف فيه القاهرة فرق المسرح التجريبي الضالة في أرقي فنادق الخمس نجوم.. كانوا في بيت ثقافة حلايب وشلاتين مثلا كل أملهم في الحياة جهاز تليفزيون وهوائي لاستقبال البث التليفزيوني ليربطهم بأحداث الوطن.. وكان التليفزيون المخصص لهم بقرار رسمي قد تم شراؤه بالفعل وطمع فيه رئيس هيئة سابق لكبر حجمه فوضعه في مكتبه!! ولكي نكون منصفين فلا يمكننا أن ننكر ما قام به فاروق حسني عبر24 عاما قضاها وزيرا للثقافة أقام فيها العديد من القصور وبيوت الثقافة والمتاحف الهامة وأعاد للقاهرة التاريخية شارع المعز وأحدث حركة نشطة من الإعمار الثقافي.. ولكنه أغفل بناء الكوادر والعقول والبشر.. وكان نتيجة ذلك جزءًا كبيرًا مما نعانيه الآن من ثقافة ظلامية تخرج علينا الآن من كهوف التاريخ بالسيوف لقطع الآذان والأيدي وتحطيم «الأوثان».. لقد استشهد 685 وأصيب خمسة آلاف شباب الثورة لإسقاط الدولة البوليسية وإقامة الدولة المدنية.. وليس الدولة الظلامية. •• إن أحد المهام الرئيسية أمام وزرة الثقافة.. أن تبدأ الآن وفورا في رسم خطوط عريضة لمستقبل الثقافة في مصر.. تنفذ مهامها الأساسية من خلال شرايين وأوردة وزارة الثقافة التي تتمثل في 540 موقعًا ثقافيًا تمتلكها هيئة قصور الثقافة.. والتي يجب أن تكون الآن أهم مؤسسات وزارة الثقافة وعلي الدولة أن تمنحها الأولوية في إعادة دورها الرائد والحقيقي في قيادة حملة قومية لاسترداد وعي المصريين الذي غيب قسرا.. وأن تعمل كل أجهزة الدولة في حكومة د. عصام شرف أو أي حكومة أخري علي أن يسترد المصريون مصريتهم وحضارتهم ووعيهم التام بقيمة مصر ومكانتها بين الأمم.. فالقضية أخطر بكثير من الاجتماع بنخب القاهرة الثقافية.. وأكبر بكثير من مؤتمر صحفي يعقده وزير الثقافة الصديق عماد أبو غازي لم يروِ غليل كل من حضروه.. ولا يمكن أن تنهض مصر تلقائيا بالإعلان عن إلغاء مهرجاناتها الدولية بما فيها «المسرح التجريبي» لإرضاء بعض الغاضبين منه.. وكان الأجدر بوزير الثقافة أن يسند هذا المهرجان إلي لجنة متخصصة لإعادة النظر في وضع معايير موضوعية لاختيار الفرق الجادة بدلا من الفرق الضالة التي كان يجلبها لنا وليد عوني من علي أرصفة ومقاهي أوروبا ليقدموا لنا «مسرح الجسد».. علي أن تتحمل الدولة فقط مصاريف الضيافة في بيوت الشباب.. وتتحمل الفرق تكاليف السفر والإعاشة كما تفعل معظم الدول في مثل هذه المهرجانات طالما هم هواة وشباب وتجريبيون.. فمصر لن تتقدم بمجرد إلغاء مهرجان دولي فهذه المهرجانات لابد أن تكون ذات رؤية تنظيمية مع وزارة السياحة ولها رعاة من الشركات السياحية. فكل مهرجانات العالم جزء من أهدافها الأساسية تسويق بلادها سياحيا.. خاصة بعد انهيار السياحة في مصر بعد الثورة.. لأن مصر لن تتقدم إلا برؤي جديدة نحو المستقبل يحمي هذه الرؤي الإرادة الساسية أولا.. ثم يأتي دور العلم والاستنارة والعمل الجاد لبناء أركان الدولة المدنية الحديثة.. ولن يحدث هذا إلا بتبني وزارة الثقافة لمشروع قومي للثقافة والتعليم مدعوم بجهاز إعلامي قوي ويكون في خدمته كل أجهزة الدولة لحماية وعي ووجدان هذا الشعب من الجهل والتخلف.. مشروع يضع كل قري مصر علي خريطة التنمية والتطوير فلدينا 1000 قرية يتبع كل منها العديد من النجوع والقري الصغيرة.. وكل هؤلاء لابد أن يصل إليهم نور العلم واستنارة العقل.. بدلا من أن تعشش في عقولهم خفافيش الظلام وعناكب الجهل.. لقد كانت وزارة الإعلام ترفض أن تنقل الفعاليات الثقافية الراقية.. والأنشطة التنويرية.. والأعمال الفنية الهادفة رفيعة المستوي التي كان من شأنها أن ترتقي بالذائقة الفنية للمصريين.. بدلا من السقوط في الأعمال الهابطة في السينما والمسرح التجاري.. وقد رفضت بالفعل وزارة الإعلام أن تنقل فعاليات القوافل الثقافية التي نظمتها وزارة الثقافة بعد حادثة معبد حتشبسوت التي راح ضحيتها عشرات السياح اليابانيين.. وكانت القوافل تحت إشراف د.جابر عصفور وبقيادة عبد الغفار عودة رحمه الله.. فعادت القوافل لعدم توافر أماكن للإقامة والإعاشة في القري والنجوع.. وكان من الممكن أن تقدم العروض علي مسارح عواصم الأقاليم وينقلها التليفزيون لكل القري والكفور والنجوع.. وقد كتبت خلال الثلاثين عاما الماضية عن ذلك من خلال تحقيقات ميدانية ملأنا بها صفحات مجلات روزاليوسف وصباح الخير فيما مضي.. وأطلقنا شعار: «فرقة مسرحية تغنيك عن كتيبة أمن مركزي» ولكن الدولة البوليسية كانت تفضل دائما الأمن المركزي عن الفرقة المسرحية.. مثل «جوزيف جوبلز» وزير هتلر النازي للدعاية السياسية.. الذي أطلق أشهر عبارة عن زعماء الاستبداد: «كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي». ولذا لابد أن نكف عن إسناد ملف التنوير ومكافحة الإرهاب والتطرف إلي وزارة الداخلية فهذه ملفات أمن قومي يجب أن يتحمل مسؤليتها في حكومة الإنقاذ الوطني كل وزارات الثقافة والإعلام والتعليم والشباب والأوقاف والأزهر الشريف.. وتأتي الداخلية في نهاية المطاف لحماية أمن الوطن فقط.. وليس قمع المواطن وتكميم فمه.. إن من يعتقد أن الثقافة المصرية ستبدأ من الأتيليه وتنتهي بالأوبرا فإنه يقدم مصر من جديد فريسة سهلة للتطرف والفتن والجهل والتخلف.. فانتبهوا أيها السادة فالأمر جد خطير.. وإذا صمتنا عن ذلك فنحن في طريقنا إلي نفق مظلم لا توجد به سوي مصابيح قليلة.. نتمني ألا تطفئها عواصف التطرف.. وفلول النظام الفاسد.. وبقايا رجال «جوبلز».