يظل التناقض بين ما هو سياسي وثقافي تناقضاً يشبه ذات التناقض بين ما هو مدني وديني أو ما هو مدني وعسكري فالثقافة والدين والعسكرية تخلص لمبادئ عامة هي عقائد لا تتزحزح السياسة ونظريات الحكم المدني فجميعها نسبية تسعي مبادئها للحصول علي المصلحة والقوة علي أرض الواقع.. وما أحوجنا الآن لسياسة مصرية تفتح قلبها وعقلها لأحاديث المبادئ العامة الوطنية الثابتة في ظل حالتين نادرتين علي السياسة المصرية ألا وهما إعلان الكيان الديني الكبير المنظم ألا وهو الإخوان المسلمين عدم نيتهم السعي نحو قيام دولة دينية ورغبة المؤسسة العسكرية الملحة في تسليم السلطة في مصر لحكم مدني. ما أحوجنا لإعلان دستوري مبسط الآن يؤكد ذلك ويطمئن الجميع. إنني أتناول الأمر السياسي الساخن والخطير في مصر الآن تناولاً ثقافياً أرجو أن تأخذه القوي السياسية ماخذ الجد. فلا شك أن اهتمام الجميع في مصر بالشأن السياسي هو إنجاز مهم لثورة 25 يناير يمكننا أن نؤسس عليه حياة ديمقراطية سليمة. ولكن كثرة الجدل وتنوعه علي ما به من فائدة إلا أنه يحتاج لقدر من الإخلاص الوطني حتي لا يتحول إلي تشتيت للذهنية العامة وألغاز وغموض اعتادت النخبة في مصر علي صنعهما كغطاء لعجزها عن وضع تصور واضح سليم للمستقبل وأحيانا كغطاء لمصالحها الضيقة وهو الجدل غير المنظم الذي بدأ يتسبب في إحداث حالة من عدم الفهم والريبة لدي المواطن العادي. أما الموقف الواضح الذي يتم إلغازه عمداً أو بنية حسنة فهو ضرورة التأكيد علي خطة مدروسة بجدول زمني يعلنها المجلس الأعلي للقوات المسلحة لتنتهي حالة التخويف والبلطجة المعرفية الاصطلاحية علي المواطن السياسي الجديد أي الأغلبية الصامتة التي حضرت فجأة للاهتمام بالشأن السياسي العام. أما أحزاب المعارضة التقليدية قبل ثورة 25 يناير وهي كما هو متعارف عليه ذات تأثير محدود في الشارع وهي تحتاج لأعوام طويلة ربما لا تقل عن عقد من الزمان حتي تتحول من أحزاب شكلية إلي أحزاب حقيقية قادرة علي إدارة الشأن السياسي كحكومة أو كمعارضة حقيقية. فبنية النواب في مصر عائلية تماماً بعيداً عن الأماكن الحضرية في القاهرة والإسكندرية والمركز التجاري في بورسعيد وتلك العائلات في مصر ترث المقاعد خاصة في الريف والصعيد مع تغير المسميات والأحزاب وهي البنية التي تحتاج لمعالجة ثورية ثقافية. وعد قليلاً معي للوراء لتلاحظ أن تلك الأحزاب هي وبعض من النخبة قد هرولوا للحوار مع النظام السابق بينما رفع أهل الثورة وقتذاك «شعار لا حوار قبل الرحيل». وعلي الثوار أن يفكروا في حماية الثورة عبر نشر ثقافة الديمقراطية وعبر إصلاح الوعي العام المزود فعدد لا بأس به من النخبة لا يزالون يتصرفون بنفس الوصاية والتعالي الذي مارسوه من قبل عبر معادلة تغازل السلطة وتبتزها معاً في معادلة سياسية دفعت الجماهير للخروج بنفسها للشارع. وعليه فقد قلبت ثورة 25 يناير كل النظريات التقليدية للثورات في المنطقة العربية فهي لم تتأسس علي قيادة مركزية ولم يخرج الفقراء فيها لقتل الأغنياء كما تصور الماركسيون الثقاة. وهي لا تحتاج لمستبد عادل جديد صاحب مشروعات قومية كما يحلم بعض الناصريين التقليديين. الديمقراطية الحقة تحتاج لوقت طويل ولن تحدث في مصر إلا بعد أن تتحقق العدالة الاجتماعية التي تقوم علي إشباع الاحتياجات الأساسية لمعظم الشعب المصري. ثورة 25 يناير لم تكن ثورة جياع للخبز بل كانت طفرة وعي يسعي للكرامة الإنسانية والرهان هنا علي وعي وإرادة الثورة وقدرتها علي الاختيار الحر عبر الاقتراع المباشر بالرقم القومي في كل مراحل الانتخاب. الرهان المهم الحقيقي هنا علي إرادة لجماهير ولا خوف علي البرلمان في ظل قوائم نسبية وتوافقية بين القوي الوطنية مع تحديد نسبة ربما كانت ثلث المقاعد للأفراد المستقلين مما يدعم ويحقق الفرصة للأبطال الحقيقيين من الحركات الاحتجاجية المنظمة مثل 6 أبريل وكفاية والجمعية الوطنية للتغيير بل وأصحاب الخبرات الفرادي الذين لم يثبت فسادهم من النظام السابق. فالنخب التقليدية تحتاج لإعادة تأمل ذاتها فهي في معظمها كانت إما دينية أو حكومية أو منعزلة تخاطب بعضها البعض في دوائر عبثية مغلقة علي أحسن التقديرات وعليها أن تتأمل الفعل الثوري للجماهير وتتواصل معها لتكفر عن أخطاء الماضي. إخلع النظارة القديمة وانس تعبير الجماعة المحظورة وتعال لتحضر احتفال جماعة الإخوان المسلمين بالثورة هكذا هاتفني عبدالجليل الشرنوبي مسئول موقع الإخوان المسلمين علي الشبكة الدولية للمعلومات وهو الزميل الصحفي لمجلة الإذاعة والتليفزيون، وقد كان الحفل بقاعة المؤتمرات التابعة لجامعة الأزهر مساء السبت 12 مارس 2011، ذهبت وفي ذهني أنهم الكيان المنظم الذي نسق للحصول علي مقاعد بارزة في انتخابات 2005 في ظل وجود حكومة الحزب الوطني. ثم سجل أكبر عدد من المعتقلين السياسيين قبيل وأثناء الانتخابات الأخيرة التي كانت أحد الدوافع المهمة لثورة 25 يناير بتزويرها غير المسبوق. ذهبت للاحتفال وتصادف دخولي للقاعة حضور الناشط السياسي المهم جورج اسحق الذي حظي بحفاوة كبيرة منذ ظهوره علي مدخل القاعة وحتي انتهاء الحفل. قلت لنفسي إذن فقرار مشاركتي حتي ولو من باب العلم بمجريات الأمور لهو قرار صائب. أما فقرات الاحتفال فقد كانت تأكيداً من المرشد العام للإخوان السيد بديع ونائبه خيرت الشاطر، علي أن الإخوان لا يتحركون في اتجاه دولة دينية، كما حاولوا تطمين أهل الفن فقدموا عدداً من الأغاني بالمعيار النقدي الفني هي أكثر من رائعة شعرا ولحنا وتوزيعا ومقدرة علي عودة الغناء الجماعي، ثم ها هو القمص ميخائيل جرجس يخطب في الحضور لتلتهب القاعة خلفه بهتاف «مسلم مسيحي إيد واحدة». ثم يتحدث جورج اسحق بنبرة حاسمة عن ضرورة طرح فكرة الأكثرية العددية، والمرجعية الدينية للحزب المنتظر، فيقابل ببسمت صافية من خيرت الشاطر وهتاف جماعي: تحيا مصر. وقد كان المرشد العام قد حدد شعار مشاركة لا مغالبة كمنهج للمشاركة في الانتخابات، وقد حددوا دول من 25: 45% من المقاعد، وعلي أرض الواقع يمكن التنبؤ بأن ما هو ممكن الحصول عليه سيتراوح بين 20%: 30% من المقاعد، كما أنهم وباقي الفصائل الإسلامية لا يفكرون علي الأقل حتي الآن في الدولة الدينية، كما أن المجلس العسكري المصري لن يسمح بحدوث ذلك عبر استخدام أي وسائل صلبة كانت أم ناعمة. لقد بدأ الإخوان يعلنون عن برنامج صناعي علمي تجاري تنموي، فقد أصبح الوطن آمنا بما سيغير دوران رأسمالهم الكبير في عجلة التجارة السريعة فقط، هكذا أعلن السيدان حسن مالك وخيرت الشاطر. لا أحب أن أبدو متفائلا تماما لكنني أخشي حقاً من استمرار نظرة بعض المثقفين والليبرالين للإخوان كأعداء للدولة المدنية، لقد اختلف الإخوان بمجرد ظهورهم للعلن، لقد تعلم الإخوان في ميدان التحرير أنهم ليسوا هم فقط أصحاب القدرة علي تقديم الدماء والشهداء، فالأقباط يقدرون والشعراء والكتاب والبسطاء والفنانون يقدرون أيضا. كما أن حرية الجماعات الإسلامية يجب تركها تعمل طالما لم تلجأ للعنف أو للعمل السري، فكما توجد في الأطياف المسيحية رؤي متعددة فإن تنوع الأطياف الإسلامية أيضا مفيد للتنوع الثقافي وللحرية طالما لم نكفر أحدا أو تقوم بأفعال اكراهية لإرادة الناس في الشارع. والحرية الممنوحة والمكتسبة للجميع في مصر تحتاج لأن تؤمن كل قوي المجتمع بضرورة احترام رأي الأغلبية، وإدراك أنه لا أحد في مصر فوق القانون. كما أن عدداً من المفرج عنهم يري كيف تسامح المجتمع، وكيف تنفسوا الحرية بسبب تلك الثورة غير المسلحة وغير الدينية. أعرف أنني أبدو مثاليا متفائلا أتحدث لغة خارج لغة السياسة التقليدية، ففي السياسة تسعي كل جماعة سياسية للمصلحة والقوة، ولكنها حقا لحظة مختلفة في تاريخ العمل السياسي المصري الحديث، فمن الخيانة الوطنية الآن أن تعلن قوة سياسية ما لا تضمر أو تناور للالتفاف علي التوافق الوطني. أما الثوار ولهم كل الحق في انشاء أحزاب جديدة، أو العمل ككتل وطنية توافقية فمن الضروري أن أذكرهم بأن الثورات تتعطل عندما يتحول الثائر لسياسي أو حاكم أو زعيم، وهنا يحق لي أن أثمن موقف المناضل السياسي كمال أبوعيطة الذي رفض منصب الوزير عندما تم ترشيحه لحقيبة القوي العاملة، وأعلن مكاني في الشارع.. ما هذا النبل؟! ففي الشارع المنظم السياسي السلمي الحر يؤثر الثائر. فالثائر يحق له أن يطلب المستحيل. أما إذا صار الثائر سياسيا فهو يطلب الممكن، فهل نستطيع أن نظل كثوار نحلم بالتغيير وبالمستحيل وبالأحلام الكبري. هذا دور الثوار الوطني أن يبقوا علي يسار الحكومة والمعارضة معا، من أجل مصر الحرة القوية التي لا تخاف قواها الوطنية من بعضها البعض، مصر التي لا تسمح بأن يهددها تعبير الثورة المضادة، فالمضاد لم يحمل صفة الفعل الثوري، إنه خافت مخادع مكشوف يعبر عن مجموعات مصالح متناثرة تطلق آخر حيلها البائسة وهي ذات طبيعة عنقودية متشابهة وستستلهم قريبا جدا بمجرد انتهاء الغموض النخبوي علي يد خريطة طريق حازمة. وستنتصر تماما ثورة 25 يناير عبر انتظام الحياة اليومية في مصر، وسيحدث هذا بضمان الابقاء علي انسجام ووحدة الجماعة الوطنية المصرية التي تؤمن بالحرية التي تحميها سيادة القانون.