لا نستطيع أن نتناول التاريخ والحرية عند هيجل بغير أن نتناول الدولة, فإذا كان التاريخ هو تاريخ الروح أو تاريخ الحرية, فإن الدولة بدورها لم تعد مجرد بعد من أبعاد التاريخ بل بدت لديه جوهر التاريخ وروحه, بمعني إنه لم يعد بمقدورك أن تفصل بين التاريخ والروح والحرية والدولة عند هيجل, فثمة كيان واحد يواجهنا, ولو حاولت أن تقلل من شأن بعد واحد من أبعاد هذا الكيان, فكأنك تقلل من شأن بقية الأبعاد كلها, وهكذا فإنه إذا كانت محاولة يراد بها النيل من الروح أو الحرية أو التاريخ مرفوضة وباطلة ومستهجنه, فإن كل محاولة يراد بها هدم الدولة تبدو بدورها في دلالتها العامة محاولة للنيل من التاريخ والروح والحرية, فلم تعد الدولة عند هيجل تمثيل لروح العالم بل بدت لديه تجسيدا صادقا لروح العالم, وهو ما يفسر لنا تنديد هيجل وإدانته لكل صور القمع للطاقات الروحية, فالدولة لا يمكنها أن تتناول الفن والدين والفلسفة كمجرد وسائل لغايتها, بل هي غايات في ذانها تتطلب تقديرها والنهوض بها, لا تقبل اخضاعها, أو التدخل في حريتها باعتبار إنها أرقي من الكيان الموضوعي المتمثل في الدولة, بل أن اسمي غاية تحققها الدولة عندما يتم النهوض بها إلي درجة ومستوي يتوافق مع روح الشعب, ومثل هذه الغاية تتطلب أن تنطلق من الدولة ذاتها ولا تنبع من خارجها, والدولة التي لا تقوم بواجبها في هذا المجال لا تستحق أن يطلق عليها دولة, بل أن كل محاولة للإطاحة بالطاقات الروحية الخلاقة أو توجيه مسارها أو إخضاعها أو صياغتها وفقا لأهواء ومصالح حزبية ضيقة إنما هي محاولة يراد بها القضاء علي الدولة ذاتها, بل القضاء علي التاريخ والروح والحرية, وبالتالي فحقيقة الدولة لا تتحدد بقوتها المادية بقدر ما تتحدد بقوتها الروحية, والثروة المادية لا تعد معيارا حقيقا لتقييم الدولة, وكثيرا ما تؤدي زيادة رقعة الدولة إلي أضعاف مظهرها وحدوث انحلالها وتكون بذلك سببا في خرابها, ولنا في الخلافة الإسلامية في مراحل أطوارها المختلفة نموذجا علي ذلك, ولعلنا نتساءل لماذا لم تستمر الخلافة الإسلامية إلي يومنا هذا!, وما هي مبررات أحياء فكرة الخلافة في عالمنا المعاصر في واقع بدت فيه الدول العربية والإسلامية في بحوثها العلمية ومتطلباتها التكنولوجية واحتياجاتها الاقتصادية وتوجهاتها السياسية معتمدة فيه علي العالم الغربي بدرجة لا يمكن إنكارها وإذا كنا لا نستطيع أن نتجاهل علاقتنا بالغرب علي هذا النحو, فهل نعتمد عليه أيضا في دعم الفكرة والدفاع عنها, أليس من العقل والحكمة أن تلحق هذه الدول بمسيرة التقدم الإنساني العالمي بدلا من أضعافها وتفتيتها وإبداع صراعات مذهبية وطائفية بينها بغية تأسيس خلافة إسلامية بين دويلات ضعيفة متهالكة؟ ولمصلحة من؟ وإذا قال البعض أن وحدتنا في قوتنا, فهل تعني الوحدة التفتيت والتفكيك وأضعاف كيانات الدول, ثم أن الوحدة الحقيقية, كما ذهب هيجل ينبغي إلا تعمل علي الإطاحة بالاختلافات والتمايزات بل تتطلب المحافظة عليها وحمايتها, فقد رفض هيجل الوحدة المجردة شأنه في ذلك شأن رفضه للعقل المجرد, وعلي الرغم من تقدير هيجل للثورة الفرنسية والمثل العليا الني نادت بها لكنه من ناحية أخري أكد أن إزالة كل الفوارق في الكيان الاجتماعي أو السياسي بهدف تدعيم سلطان الدولة يؤدي في نهاية المطاف إلي القضاء علي الحرية, فالحرية الحقيقية تتطلب السماح لكل هيئة تعمل لصالح الدولة بأن تتمتع بنظام مستقل خاص بها, فالحرية تعني حق الاختلاف والتنوع ولا تعني أبدا الدمج القسري المفتعل. ولنا في الوحدة الأوروبية علي نحو ما دلالة واضحة علي مقصد هيجل في هذا الخصوص, إذا إنه علي الرغم من الروح الأوروبية المتغلغلة في هذه الوحدة, لكنها لم تؤد إلي إزالة الاختلافات بين الدول الأوروبية والخصائص المميزة لكل دولة علي حدة, فالوحدة عند هيجل هي الوحدة العضوية التي لا تعمل علي صب كل شيء في كيان واحد لا يتفق مع منطق الواقع, فإذا كان هيجل قد رفض العقل المجرد والحرية المجردة, فقد رفض أيضا الوحدة المجردة, ويأتي رأي هيجل في تناوله للدستور الألماني متسقا ومتوافقا مع كل ما سبق, فالمصلحة الخاصة للدولة هي أهم عامل يحدد توجهاتها, فالدولة هي الروح التي تعيش في العالم وتحقق نفسها فيه بواسطة الوعي, وليست الدولة مجرد خليط من إرادات الأفراد المرتبطة ببعضها بقيود قانونية أو بعقود اجتماعية أو بعقد يلزم بالرضوخ والخضوع والتبعية. الدولة عند هيجل, شأنها شأن جميع منطلقاته الأخري, تتمتع بوحدة عضوية, وحدة بين نقائض تسمح بأعظم المتعارضات وتتطلبها, ولكنها في نهاية المطاف تعبر عن روح واحدة, وفي تناوله لدستور ألمانيا أكد عدم اعتماد أي دولة علي كثرة عدد سكانها أو علي جيشها أو حجمها, فالدستور لا يعتمد إلا علي الروح الكامنة في تاريخ الشعب, وهو وحده صاحب الحق في صنع وكتابة الدستور, وضمان بقاء الدستور واستمراره ينبع من هذه الروح وحدها صانعة وملهمة كل الدساتير الجديرة بالاحترام,ومن هنا ندد هيجل بكل محاولة مفتعله لقهر روح الشعب, أو توجيه الدستور بعيدا عن روح الشعب, فكل محاولة تستهدف من خلال الدستور الخضوع لإرادة حزب سياسي معين أو زعيم فرد, محاولة مرفوضة بل مستحيلة عند هيجل, فالدستور لا ينبغي أن يخضع في توجهاته ومنطلقاته لأهواء ومصالح حزبية ضيقة تطيح بالروح الكامنة في الشعب بتاريخها وحريتها وثقافتها, ولو حاول البعض وتجرأ علي مثل هذه المحاولة الكئيبة, فإنه في حقيقة الأمر يعادي شعبه, يعادي روح الشعب الذي من المفترض أن تكون وحدها المرشد الأمين له. لمزيد من مقالات د . مجدى الجزيرى