\r\n وفي ما يتعلق بالصفات الواقعية لسلوك وتفكير السكان في ظروف تاريخية ملموسة, والتي تنشأ عبر الممارسة, فيمكن تعريفها بالحالة الذهنية للسكان في اللحظة التاريخية المعينة. ومن صفات ذهنية العرق (الحضارة) يجب ان نذكر تلك, وفقط تلك, التي تشكلت بتأثير عوامل طبيعية - جغرافية وجيوسياسية فاعلة على مدى مرحلة زمنية تاريخية طويلة (على الأقل بضعة قرون), والتي لكونها كذلك تستطيع ضمان استمرارية حياة العرق (الإثنية) الشعب (الحضارة) بما هو هذا الشعب وبما هي هذه الحضارة. وفي مراحل تاريخية معينة, وتحت تأثير هذه الاوضاع التاريخية الملموسة او تلك, قد تغدو هذه الصفات ميزة خاصة من طبيعة الأقلية عند ممثلي الإثنية المعنية, من دون ان تكون واسعة الانتشار في المجتمع. الامر اذاً على النحو الآتي: إما ان يجد ممثلو هذه الإثنية في انفسهم القوة من اجل انبعاث جماهيري وإظهار صفات الذهنية المميزة لهذه الإثنية, وبفضل ذلك تحافظ هذه الإثنية على حياتها ووجودها, وإما ان تهلك (هلاكاً طبيعياً وينقرض ممثلوها او ان تتبدل ذهنيتهم ويصيروا في جوهر الامر الى إثنية اخرى). وهذا ما يجب أخذه في الحسبان عند مناقشة الذهنية الروسية, والذهنية الروسيانية (القريبة من الروسية, والتي تسم الإثنية الروسيانية الكبرى المتصفة بقدر كاف من الوحدة, اي وحدة وتكافل إثنيات روسيا التي يربطها مصير تاريخي واحد مع الإثنية الروسية الاكبر منها, \"قوام الدولة\"). \r\n \r\n والتحليل السطحي لصفات الذهنية الروسيانية قد يؤدي (ويؤدي فعلاً) الى تصور بوجود تناقض صارخ وعدم انتظام (لا منهجية) في هذه الصفات, نميز ان في الامكان تفادي مثل هذا التصور الخادع فيما لو قمنا, تبعاً لمتطلبات المقاربة العلمية الموضوعية, بدراسة هذه الصفات كمنظومة واحدة لا تتجزأ ناجمة من الظروف الجغرافية والجيوسياسية المتمتعة بقدر كاف من الديمومة لوجود وتطور الشعب الروسي وكل الإثنية الروسيانية الكبرى والدولة الروسيانية. إن مقاربة كهذه تتيح تبيان صفات الذهنية الروسيانية القاعدية المتشجة عضوياً. (...) \r\n \r\n شاع في الأدبيات الفلسفية الحديثة استخدام مصطلح \"الروحية\" علماً ان المفهوم الذي يعنيه هذا المصطلح يوصف من جانب مختلف المؤلفين بأوصاف بعيدة من ان تكون متماثلة. وفي ما يتعلق بمفهوم \"الروح\" فهو لا يستخدم الآن عملياً في الادبيات الفلسفية العلمانية, علماً ان صلته من حيث الاشتقاق اللغوي بمفهوم \"الروحية\" صلة لا ريب فيها. ويقتصر الاستخدام الواسع لهذا المفهوم على الادبيات الدينية والدينية - الفلسفية. وكبديل مكافئ لهذا المفهوم يبرز عادة في اعمال العلماء والمفكرين غير الدينيين مفهوم آخر هو \"الوعي\", علماً ان ذلك يناقض التقاليد الفلسفية التي تعود لهيغل ويتزايد تناقضه مع الاستخدام العملي لمفهوم الروحية. ويستخدم مفهوم الوعي عادة لتوصيف معارف الذات التي تقدم لها امكان مواجهة الوسط وتغييره حيث تضمن تحقيق حاجاتها وبلوغ اهدافها. ولنقارن على سبيل المثال رد فعل الانسان ورد فعل الحيوان على احداث متماثلة كالحريق. الحيوان يهرب من حريق شب في الغابة, وهذا رد فعل معقول (ناجع) ولكن لا يعدو كونه \"تكيف\" العضوية (الجسم) مع الظروف. اما الانسان فيحاول اخماد الحريق بالماء. وهذا رد فعل معقول (ناجع) ايضاً, لكن جوهره مختلف, فنظراً لعلمه بتأثير الماء على النار يستخدم احد عوامل الوسط (البيئة) ضد عامل آخر, وبذلك تحديداً يقوم \"بتكييف\" الوسط مع حاجات عضويته (جسمه). \r\n \r\n يتعلق مفهوم الوعي بالفرد ممثلاً للنوع البشري, ولو ان الوعي يتشكل في المجتمع حصراً, ويحمل بالتالي طابعاً اجتماعياً. اما مفهوم الروح فله مضمون آخر مقارنة بمفهوم الوعي, وهو لا يسم الفرد بقدر ما يسم شيئاً ما يتجاوز إطار حياة فرد بعينه. واذ كان مفهوم الوعي يرتبط ارتباطاً عضوياً بمقدرة الانسان على تجاوز اطار الوضع في اللحظة الراهنة و\"كسره\" لمصلحته بهدف تلبية حاجاته الخاصة (وفي الدرجة الاولى حاجة البقاء) فإن مفهوم الروحية (\"الصلة بالروح\" و\"حضور الروح\") يرتبط بقدرة الانسان على \"تجاوز\" اطار وجوده, وحاجاته وكل حياته, وبوجود ذاك \"العنصر\" من عناصر الوعي والناشط الواسم لهذا \"التجاوز\". وكان هيغل قد وضع مثل هذا المضمون تقريباً في مفهوم الروح والروحية. اذن يمكننا القول ان الروحية كصفة من صفات الثقافة, الحضارة, الذهنية, هي مضمون من مضامين نشاط ووعي الفرد يوفر امكان استرشادهما لا بمجرد متطلبات الوجود الذاتي للفرد, وبذلك يضمن ايضاً بقاء هذه الوحدة الاجتماعية (الجماعة) او تلك (شعب, إثنية, اثنية كبرى, أمة, البشرية بأسرها) في تعاقب اعضائها افراداً وأجيالاً. الروح هو القدرة الجماعية عند هذه الجماعة او تلك على مواجهة الوسط, وضمان بقائها. وبهذا المعنى يمكننا الحديث عن روح الشعب, روح الأمة, روح البشرية (الروح المطلق). \r\n \r\n وهكذا, ينبغي - في رأينا - ألا تقرن الروحية مباشرة (كما يفعل البعض غالباً) لا بالزهد عن الحياة الدنيا, ولا بمستوى ملكات الفرد الذهنية, ولا بالمستوى الرفيع لتحصيله العلمي, ولا بالطابع الابداعي للعمل, ولا بالجزء الكبير من الوقت الذي يكرسه هذا الفرد او ذاك للاهتمامات الذهنية (كالقراءة وسماع الموسيقى والتأمل). والانسان اذا كان زهده عن الحياة يسمح بجعل غيره من الناس اكثر روحية, واذا كانت ملكاته الذهنية تجلب الخير لا لنفسه وحسب بل للمجتمع ايضاً, واذا كان مستوى تعلمه وابداعه يضمن تطور الروح الانسانية ويساعد المجتمع على التقدم, واذا كانت انشغالاته الذهنية تؤدي الى ادراك ضرورة العيش لتحقيق القيم السامية... امكننا عندئذٍ ان نطلق على هذا الانسان صفة الروحي, الروحاني. ولذا فإن الفلاح او العامل البسيط قد يكون اكثر روحانية من اي مثقف صرف يستخدم معارفه وقدراته لأهداف انانية حصراً. \r\n \r\n والروحانية كصفة لنمط الفكر والحياة الذهنية لا تعني بالطبع نكران وجود المصلحة المادية الشخصية. إن المقاربة التجريبية الضيقة \"الحسابية\" وحدها التي تجعلنا نفترض ان الروحية يمكن قياسها بالتناسب بين الحوافز الروحية - المعنوية والحوافز المادية التي تحدد نشاط الانسان. وكما اشرنا اعلاه ليست الروحية إلا قدرة الانسان على تجاوز اطار مصالحه الشخصية لا عدم المبالاة تجاهها. وهذه القدرة مرتبطة بأولية القيم الروحية السامية على القيم المادية والشخصية الضيقة, لا بنفي هذه الاخيرة نفياً تاماً. \r\n \r\n كان هيغل محقاً عندما ربط مفهوم \"الروح المطلق\" الذي يعبر عن خط تطور المجتمع البشري كله, بالإيمان بمطلق ما. إن الانسان في واقع الامر غير قادر - من حيث المبدأ - على العمل لتحقيق الاهداف الخارجة عن اطار حياته الخاصة على اساس الخبرة التجريبية فقط, اذ ان هذه الخبرة لا يمكنها ان تقول شيئاً عما يوجد وراء الاطر الزمانية والمكانية لحياة هذا الفرد, وحتى لحياة الاجيال السابقة. ان قدرته على ذلك تقوم على اساس الايمان بقيم وماهيات سامية لا تخص وجود هذا الانسان بذاته. ومن غير الجائز ان نحاول ابعاد الايمان خارج حدود الروح والروحية او العلم, كما يفعل ذلك انصار الوضعية والمادية المبتذلة او الحس السليم \"المحض\" بل ان الايمان, على العكس من ذلك, ضروري بكل بساطة, من اجل التطور الارتقائي للمجتمع. ولذا فإن الاقرار بحق الايمان لا يناقض العلم والموقف العلمي من العالم (نظراً لأن ظاهرة الايمان بذاتها هي من وجهة نظر العلم انعكاس لاحتياجات التطور الموضوعية). \r\n \r\n أحسن المفكر الديني الروسي البارز - والمنسي من دون استحقاق, ب ي استافييف, التعبير عن وجود حاجة انسانية عميقة للايمان بوجود مطلق ما. فقال: \"ومن اجل ان ننزع عن العالم والحياة, وعن التفكير بشأنهما, طابع الصدفة المعطى كواقعة, لكن غير المستوعب فكرياً, وغير المبرر داخلياً... ولكي نضمنهما المغزى والاهمية اللذين يتطلبهما الفكر والارادة, لا بد من الإقرار ان عالم التجربة المعطى هذا ليس كل شيء. ولا بد من الإقرار ايضاً ان وراء حدوده, وفي صلبه, ثمة عالم اخر اعلى يمنحه المغزى والاهمية, انه عالم التسامي فوق الواقع. ان قوة الإكراه لدى حاجة الفكر الانساني الى الإقرار بالعالم المتسامي العاقل الكامل بحد ذاته, الذي يمنح التعقل والقيمة لعالم التجربة عبر علاقاته به... ان هذه القوة على حال لم تتمكن معها البشرية ابداً في اي مرحلة من مراحل تطورها, من الاستغناء عن عرافات وتخمينات ما حول هذا العالم العاقل الكامل المتسامي\". ان الايمان بمطلق خيّر اعلى هو اساس الدين. ويقول استافييف ايضاً ان \"الدين\" يعني في الدرجة الاولى صلة, اتحاداً, او اعادة اتحاد. وهو يقيم علاقات ما تربط بين امور غير متجانسة. فأي صلة, وأي اتحاد يحققهما ويعبر عنهما الدين؟ ليست هي الصلة بين الاشياء ومجموعات المواد, ولا بين قوى وظواهر الواقع المدرك بالتجربة... انها تحديداً الصلة بين الواقع الدنيوي بكل سعته وعالم ضروري للعالم الروحي عند الانسان الملقى وسط هذا الواقع, من دون ان يستنفده هذا الواقع\". \r\n \r\n إن الروحانية والايمان بالقيم السامية (وبهذا المعنى التدين ايضاً) هي صفات تسم الذهنية الروسية. وكان لا مناص من ان تتشكل عند الروس في شروط طبيعية. جغرافية وسياسية لكينونية الإثنية الروسية والدولة الروسيانية في رحاب اوراسيا مترامية الاطراف (المقصود بذلك مساحة شاسعة متصلة من اوروبا وآسيا) التي لا تحميها اي حدود طبيعية... رحاب غنية بثرواتها الطبيعية, وذات مناخ قاري بارد, وفي ظروف الضغط الجيوسياسي من الغرب والشرق على حد سواء. وفي ظروف عملية العولمة الجارية في العالم الآن فإن طابع الذهنية الروسيانية هذا يتعرض لعملية \"اجتراف\" ولا يبدو واسع الانتشار. ولكن إن لم يتجل بكامل قوته (علماً ان الظروف الجيوسياسية لتطور روسيا لم تتغير جوهرياً منذ عصر روسيا - كييف) فإن الاثنية الروسية وروسيا كدولة وحضارة متميزتين, قد تختفيان من الوجود. ولأن الروس اثنية كبيرة العدد ما فيه الكفاية في ظل كثافة سكانية متدنية جداً, وتفاعل وثيق مع غيرهم من الاثنيات التي تعيش على الارض نفسها, لم يكن في الامكان ان تنشأ لديهم جماعية \"اثنية ضيقة\", ولا الطموح للتوحد وفق مؤشرات محض اثنية على غرار شعور الامة الواحدة الذي يسم الألمان (على سبيل المثال). ولكن من جهة اخرى ما كان للشعب الروسي ان يبقى كإثنية لولا اشكال معينة من الجماعية. ولذا فإن الجماعية عند الروس تتصف بطابع مزدوج: فهي من جهة جماعية مشاعية في العلاقات بين \"الأقربين\" (وفي المقام الاول على صعيد العمل - \"روح الأرتيل\"). وهي من جهة ثانية جماعية \"تعبوية\" في العلاقات مع \"البعيدين\" (من دون اعتبار لمقوماتهم الإثنية). إن كلمة \"تعبوي\" تستخدم هنا للتأكيد على ان هذه الجماعية لا تتجلى بالقدر الكافي إلا في الحالات الاستثنائية (عندما يتعرض وجود الشعب الروسي وروسيا كدولة مستقلة لتهديد ما) وفي ظل تحركات نشيطة لتعبئة الشعب تقوم بها مجموعات ومنظمات وقوى ذات مرجعية وتحظى باعتراف عام, وفي الصدارة منها سلطة الدولة. إن الصلة واضحة بين هذه الصفة والصفة السابقة من صفات الذهنية الروسيانية لأن الروحية في جوهرها نقيض للفردية. ولقد تعلم الروس من التاريخ ان ضمان بقائهم كإثنية في ظروف تبعثرهم على مساحات واسعة جداً في اوراسيا. وكذلك ضمان استقلالية الدولة وكينونتها الذاتية لا يمكن ان تضطلع به إلا سلطة دولة قوية, سلطة قادرة ان تضمن تجلي الجماعية \"التعبوية\" وان تنهض لتعبئة كل اعضاء المجتمع, وإرغامهم احياناً, للارتفاع فوق مصالح اللحظة الراهنة لكل فرد على حدة ولبعض الفئات الاجتماعية بل وحتى فوق مصالح جيل المرحلة بأسره\". \r\n \r\n إذا ما تمعنا بالاشتقاق اللغوي للمصطلح الروسي \"سامودير جافيه\" (الحكم المطلق) لرأينا انه يسم بشكل مترابط ثلاث صفات جوهرية لسلطة الدولة قادرة على ضمان الوجود المستقل للإثنية الروسية والإثنية الروسانية الكبرى. وهذه الصفات هي: \r\n \r\n 1- قوة وجبروت الدول. 2- استقلال الدولة عن اي قوى خارجية غريبة عن الدولة او فوق الدولة, وكذلك استقلالها عن مصالح جهات خارجية بالنسبة الى روسيا. 3- الاستقلال النسبي عن مصالح السكان في المرحلة الراهنة وحسبان الدولة مصالح الشعب كوحدة (جماعة) من نوع خاص تضم كل الاحياء وكذا الأسلاف والأخلاف. إن حب الحرية (لا بمعناه فردي النزعة) كأهم صفة من صفات الذهنية الروسيانية يرتبط ارتباطاً عضوياً بصفة اخرى هي إيمان الروس بدولتهم على غرار الايمان بالمطلق, اي علاقاتهم المقدسة بالدولة. ومن الطبيعي ان جهاز الدولة على مدى التاريخ الروسي كثيراً ما اساء استخدام هذه العلاقة. \r\n \r\n وهكذا, يمكننا التأكيد ان الذهنية الروسية (والروسيانية عموماً) التي تكونت تحت تأثير الظروف الموضوعية لوجود روسيا, اي الظروف الطبيعية - الجغرافية والجيوسياسية, ذهنية تطبعها الروحانية والإيمان بقيم وجواهر عليا (ومنها التدين بهذا المعنى العام). وتبين التجربة التاريخية ان شعوب روسيا كلما كانت تبدي هذه الصفة بالقدر التام كلما كانت تتطور بنجاح وتشغل مواقع بارزة في العالم وسيرورة التاريخ العالمي. اما عندما كان الضعف يعتري هذه الصفات في ذهنية السكان الفعلية بسبب احوال موضوعية مختلفة وبفعل عوامل ذاتية ايضاً, كانت روسيا تتعرض لفقدان مواقعها في العالم وللتفكك ايضاً. ولا يتناقض هذا القانون لا مع الحقبة السوفياتية, ولا مع زمن الازمة الحالي وما يبدو مترافقاً معه من تنامي الامزجة الدينية في المجتمع. وإذا ما فهمنا التدين بالمعنى الواسع للكلمة, كإيمان بقيمٍ ما عُليا تتجاوز اطر حياة الانسان... إيمان بمطلق خيّر, فإن ايماناً كهذا, وتديناً كهذا كانا يسمان الوعي الجماهيري عند المواطنين السوفيات على مدى الجزء الاكبر من حياة الاتحاد السوفياتي (على شكل ايمان بالعلم والماركسية والمستقبل الشيوعي الوضاء). وانه لأمر آخر تماماً ان الشرائح الحاكمة قد استخدمت احياناً هذا الايمان لأهدافها الأنانية الضيقة. وفي ما يتعلق بمرحلة (البريسترويكا) وبداية (اصلاحات السوق) فقد اتسمت بتدني ايمان السكان بالقيم العليا, وتدينهم بالمعنى الواسع للكلمة (مما يدل على ذلك مثلاً النمو الحاد لأمزجة الفردية, وارتفاع نسبة الجريمة, وتزايد عدد حالات الانتحار... الخ), وذلك بغض النظر عن بعض التزايد (ولو الشكلي) لعدد اتباع الطوائف الدينية التقليدية في روسيا. ولم يكن من قبيل الصدف ان شهدت هذه المرحلة بالذات انهيار (جسد) روسيا التاريخي (في الصيغة السوفياتية) وان الفيديرالية الروسية الحالية في وضع ازمة اجتماعية - اقتصادية منهجية, ولا تلعب ذاك الدور المهم في الشؤون الدولية الذي كان يلعبه الاتحاد السوفياتي بصفته احدى الدولتين العظميين في العالم. \r\n \r\n ان حضور صفات في الذهنية الروسيانية كالتدين (بالمعنى الواسع للكلمة) يتيح تفسير ظواهر ووقائع اخرى عدة في تاريخ روسيا, منها على سبيل المثال التعايش السلمي في روسيا بين ديانتين عالميتين هما الاسلام والمسيحية (في شكل اكثر قرباً الى المسيحية المبكرة الاصلية اي في صيغة الارثوذكسية) ويكمن الامر في ان المسيحية الاولى (الارثوذكسية) والاسلام يمكن نسبهما الى ما يعرف بالديانات التقليدية التي شأنها شأن الثقافات التقليدية, لها ذاك الموقع في منظومة (محاور الإحداثيات) الثلاثة آنفة الذكر, موقع تطبعه الروحية والجماعية سواء بسواء. والثقافة من حيث جوهرها ذاتها, هي شكل لكبح جماح النزعة الفردية, وتفترض الاسترشاد بمطلقٍ ما كمصدر للمعايير الاخلاقية (ليس صدفة ان كلمة كولتورا - الثقافة - جاءت من الجذر/ كولت اي العبادة). ان الابتعاد عن هذه المقاصد يعني الابتعاد عن الثقافة والدين (والانتقال الى نوعيهما غير التقليديين اي \"شبه الثقافة\" و\"شبه الدين\") وهذا الابتعاد بالذات نلاحظه في تطورات حضارة اوروبا الغربية (بصياغته الأيديولوجية على صورة انتقال الى الكاثوليكية, وخصوصاً الى البروتستانتية, وفي صورة عبادة الفردانية), اما في روسيا فلم تشهد عملياً مثل هذه الظاهرة. إن التدين - بالمعنى الواسع للكلمة, كصفة من صفات الذهنية الروسيانية يمكن اخذه في الاعتبار عند تفسير ظواهر في تاريخ روسيا غير البعيد كالصراع المرير ضد الاديان التقليدية في المراحل الاولى لقيام السلطة السوفياتية (نظراً لأن الايديولوجيا الرسمية كانت في جوهر الامر ضرباً من الدين في نظر جماهير عريضة من السكان) والانبعاث السريع لمكانة الديانات التقليدية في السنوات الاخيرة. \r\n \r\n يستحيل على روسيا الخروج من الازمة الاجتماعية - الاقتصادية والجيوسياسية الحالية الصعبة ما لم تنبعث في وعي الجماهير العريضة من سكانها تلك الصفات والتقاليد التي طبعت الذهنية الروسية تاريخياً. \r\n \r\n \r\n * نائب رئيس الأكاديمية الروسية للخدمات الحكومية التابعة للرئاسة الروسية في مقاطعة الفولغا, والنص من محاضرة ألقاها اخيراً في المؤتمر الدولي الذي نظمه البيت اللبناني - الروسي في عنوان \"التنوع الثقافي: تجربة روسيا والمشرق العربي\". والذي جرت أعماله في قاعة محاضرات فندق الشيراتون - بحمدون (لبنان).