مناقشة التفاؤل والتشاؤم أمر فيه بلاهة. إنها مفاهيم فارغة من المعني. إن من يحتمون بالتفاؤل إنما يفعلون ذلك لأسباب سياسية أو ايديولوجية لأنهم لا يبغون البوح بما يفكرون فيه. كما يقول المثل الروسي: المتشائم هو متفائل عليم. إن موقف المتفائل موقف خبيث فكرياً، موقف مسرحي يخلو من الصدق. في المقابل، الأمل صفة من صفات الانسان، وهو ميزة البشر التي يولدون بها. إننا لا نفقد الأمل في مواجهة الواقع لأن الأمل غير عقلاني، يفرض نفسه ضد كل منطق. يقول ترتوليان: "عن حق: إنني أعتقد...لأنه من العبث أن نعتقد". يتأكد الأمل لدينا حتي في مواجهة أكثر مجتمعاتنا الحالية بؤسا. ببساطة لأن البشاعة، مثلها مثل الجمال، تثير لدي من يؤمن أحاسيس تؤكد الأمل وتدعمه. أعرف الكثير عن أحلامي، وهي تكتسب عندي أهمية قصوي، لكني لا أميل للكشف عنها. أريد أن أقول إن أحلامي مقسمة إلي قسمين: هناك الأحلام الاشراقية التي أتلقاها من عالم الماوراء، من عالم الغيب، وهناك الأحلام العادية التي تأتي من علاقاتي بالواقع. الأحلام الاشراقية أو التنبؤية تأتيني أثناء النوم عندما تنفصل روحي عن الوديان وتصعد إلي قمم الجبال. ما أن ينفصل الانسان عن الوديان حتي يبدأ رويدا رويدا في الصحو. في اللحظة التي يصحو فيها تكون روحه نقية طاهرة وتكون الصور محملة بالمعني. إن الصور التي نعود بها من العالم العلوي هي التي تحررنا، المشكلة أنها تختلط سريعا مع صور الوديان ويصبح عسيرا علينا أن نجد المعني. الشيء الأكيد هو أن الزمن، في العالم العلوي، قابل للانعكاس، الأمر الذي يثبت لي أن الزمان والمكان لا يوجدان إلا من خلال تجسدهما المادي. الزمن ليس موضوعياً. الانسان الحديث مشغول بنموه المادي وبالوجه البراجماتي للواقع. إنه مثل حيوان مفترس حائر فيما يفترسه. لقد اختفي اهتمام الانسان بالعالم الأعلي المفارق وأصبح الانسان الآن يتطور مثل دودة الأرض: أنبوب يبتلع الأرض ويخلف وراءه القليل. لو أن الأرض اختفت يوما ما فذلك لأن الإنسان سيكون قد أتي عليها ولن يكون هذا مستغربا. ما فائدة الصعود إلي الفضاء مادام هذا ينأي بنا عن المشكلة الأهم: التناغم بين العقل والمادة. يجب أن يكون الفن حاضرا ليذكر الانسان أنه كائن روحاني وأنه جزء لا يتجزأ من عقل متناهي الكبر سيعود ليتحد به في النهاية. لو أن الإنسان اهتم بهذه الأسئلة، لو أنه طرحها علي نفسه، لنجا روحيا بالفعل. ستكون الاجابة بلا أهمية تذكر. أعرف أنه بدءا من تلك اللحظة لن يستطيع هذا الإنسان أن يحيا كما تعود في السابق. هناك نوعان من السينمائيين: النوع الأول يعتبر السينما فنا ويطرح تساؤلات شخصية. يري السينما معاناة وهبة واضطرارا. أما الآخرون فيرونها وسيلة لربح المال...تلك هي السينما التجارية: مثلا فيلم E.T حكاية مدروسة ومصورة سينمائيا بهدف نيل إعجاب أكبر قدر من الناس. لقد بلغ سبيلبرج هدفه بذلك فهنيئا له. هذا الهدف لم أسع قط للوصول اليه. بالنسبة لي، كل هذا عار من الأهمية. لنأخذ مثالا آخر: في موسكو، هناك مائة مليون نسمة بما في ذلك السائحون، ولكن هناك فقط ثلاث قاعات كونسير للموسيقي الكلاسيكية، هي قاعة تشايكوفسكي والقاعتان الكبيرة والصغيرة في الكونسرفتوار. أماكن قليلة جداً لكنها ترضي الجميع. رغم ذلك لا يدعي أحد أن الموسيقي لم تعد تلعب دوراً في الحياة في الاتحاد السوفييتي. الحقيقة أن مجرد وجود هذا الفن الكبير الروحاني يكفي في ذاته. بالنسبة لي، فن الجماهير أمر عبثي. الفن يتجلي بروح سامية ارستقراطية، الموسيقي لا يمكن إلا أن تكون ارستقراطية. الفن في لحظة الخلق يعبر عن روح الجماهير، وهو الأمر الذي تطمح إليه غير واعية. لو أن الجميع باستطاعته فهم الموسيقي لأصبح العمل العظيم عادياً مثل نبتة نمت في الحقول، ولما كان ثمة اختلاف في الامكانيات تتولد عنه الحركة. باعتباري أرثوذوكسياً اعتبر روسيا هي أرضي الروحية. لن أتنازل عن ذلك قط حتي لو قدر لي ألا أراها أبداً. يقول البعض إن الحقيقة سوف تأتي من الغرب، والبعض الآخر من الشرق، ولكن لحسن الحظ التاريخ مليء بالمفاجآت. في الاتحاد السوفييتي، هناك صحوة روحية ودينية نشهدها اليوم ولا يمكن أن يكون ذلك سوي أمر طيب. لكن الطريق الثالثة بعيدة المنال. شعرت دوماً بأثر الثقافة الشرقية علي وبسحرها الأخاذ. إن الرجل الشرقي يعطي نفسه للكون هدية. بينما في الغرب، المهم هو أن يظهر الانسان نفسه، أن يؤكد ذاته، يبدو لي ذلك مؤسيا، ساذجا، حيوانيا، أقل روحانية وأقل إنسانية. لذلك أتحول أكثر فأكثر الي رجل شرقي. علي الإنسان أن يتعلم أولا من التاريخ، وإذا كان ثمة شيء قد تعلمناه من التاريخ فهو عجزه الدائم عن أن يعلمنا شيئا. إنها خلاصة فكرية بالغة التشاؤم. الانسان يكرر أخطاءه دون كلل، شيء بشع... لغز جديد! أعتقد أن علينا أن نبذل جهداً روحيا حتي يعلو التاريخ إلي مستوي أرقي. أهم ما في الأمر هو حرية المعلومات التي يجب أن يحصل عليها الإنسان بلا رقيب. إنها الأداة الوحيدة الايجابية. الحقيقة بلا رقيب وبلا مسيطر هي بداية الحرية. المخرج أندريه تاركوفسكي هو نابغة السينما الروسية في القرن العشرين. ولد عام 1932 وقدم أول أفلامه عام 1958 ثم علي مدي أكثر من خمسة عشر عاما أخرج عدداً محدوداً من الأفلام تمثل كلها علامات في تاريخ الفن، من بينها أندريه روبليف (1969)، سولارس (1973)، المرآة (1975)، ستالكر (1979)، نوستالجيا (1983) والقربان (1986). توفي تاركوفسكي في ديسمبر 1986 مصاباً بالسرطان.