تخيل إنك في لحظة ما تلاشت كل الروابط العضوية بينك وبين جذورك التاريخية وهويتك الثقافية الروحية ودولتك التي ولدت وتعيش فيها, تخيل أن من قام بهذه المهمة الكريهة العدوانية جماعة ارتضت لنفسها باسم الدين أن تطيح بتاريخك الأصيل فتفرض عليك تاريخا مزيفا بديلا عنه وتسلبك هويتك الجوهرية وتخضعك لهوية أخري غريبة عنك, وتفتت دولتك وتنسبك لدويلة لا تعرفها, لا شك أنك تكون في هذه الحالة بمواجهة الجنون بعينه, كابوس ثقيل يصعب عليك أن تتخلص منه وتفصل فيه بين الحلم والواقع, بين الوهم والحقيقة, بين العدم والوجود, وأيا كان الموقف فمن المؤكد أن ثمة محاولة ممنهجة لاغتيال كل الانتماءات الجوهرية التي تحدد وجودك الإنساني لترغمك علي انتماء واحد من صنعها ليس لك علاقة به, ما الذي يتبقي لك و منك؟ من المؤكد لا شيء, وما هو موقفك؟ أن ترضخ وتستسلم أو تتمرد وتثور, وربما كان هذا الفرض أقرب إلي الخيال, لكنه ليس بعيد كل البعد عن الواقع, وأعتقد أن قيمة هيجل تكمن في محاولته تعقل الواقع, حتي لو كان هذا الواقع بعيدا عن العقل باعتبار أن كل ما هو واقعي عقلي, وإذا كان الواقع غير معقول لفترة ما, فإن طبيعة العقل الثورية.. كما تناولها ماركيوز- تعمل علي إعادته مرة أخري إلي مملكة العقل, انطلاقا من المقولة التي انطلق منها في حتمية ارتباط العقل بالواقع, ومن ثم فالجماعة التي عملت علي نزع تاريخك وطمس هويتك والإطاحة بدولتك وتمحور جهدها حول خلق واقع جديد لا يتفق مع العقل والمنطق, لا أعتقد أنه كان بمقدورها الاستمرار في استكمال مخططها اللاعقلاني, وبالتالي يأتي تمرد العقل علي كل محاولة يراد بها زحزحته عن دوره الطبيعي في قيادة الواقع, حيث أنه لا يوجد بديل أخلاقي غير تجاوز الواقع العبثي الأحمق الذي اندفعت إليه الجماعة في محاولتها البائسة للسيطرة علي الواقع, وهنا يصبح الصدام حتميا بين الثوار الحقيقيون دعاة العقل والمنطق في التعامل مع الواقع الإنساني الحق وبين الرافضين لكل عقل ومنطق في ضوء نزعتهم الإرهابية العدوانية. وهل هناك معني آخر للإرهاب غير مهاجمة النظام العقلي للأشياء بغية تحطميه والقضاء عليه, وهو نظام يتبدي ويتكشف في كل شيء, يتبدي في التاريخ وروح العالم والدولة والدستور, عرف هيجل تاريخ العالم بأنه يمثل التقدم في الوعي بالحرية, بل كان يتباهي ويردد القول بأنه فيلسوف الحرية, فكما تعد الجاذبية حقيقة المادة, فإن جوهر وحقيقة الروح يكمن في الحرية, وإذا كانت الروح تتصف بالحرية كما تتصف بصفات أخري, فإن الحرية هي وحدها حقيقة الروح, ومن هنا بدت دلالة كتابه' فلسفة التاريخ' في كشف اتجاه الروح في الزمان علي نحو ما تمثل الطبيعة مظاهر الفكرة في المكان, ولم يعد بذلك تاريخ العالم عند هيجل يمثل أكثر من مظاهر لفكرة الروح, ومتي تناولنا تاريخ العالم علي هذا النحو لم يعد هناك أي مبرر لثنائية الماضي والحاضر, فالماضي عند هيجل مهما اتسعت عصوره, لا يتناول إلا ما هو حاضر, والفلسفة عند هيجل ينصب اهتمامها علي الحاضر الأبدي, فكل شيء في الماضي لا يخضع للنسيان والضياع, باعتبار أن الفكرة حاضرة علي الدوام, فالروح خالدة, ولا ماضي أو مستقبل لها فكل شيء يتمحور حول الآن. لم يعد التاريخ عند هيجل مجرد سرد لوقائع الماضي التي أنقضت, بل أصبح معنيا بالدرجة الأولي بالروح الكامنة فيه, وبدت مهمته في كشف تجلياتها في حاضرنا, وهكذا يكون من السخف والضلال أن تتجاهل أو تتوهم بأن في مقدورك أن تتعامل مع التاريخ وتتجاهل هذه الروح, أو تعيد تشكيلها وصياغتها علي هواك, أو تفرض عليها سلطانك وتفرض عليها خصائص ليست فيها, وكأنك تقدم للتاريخ أفقا روحيا ومذاقا جديدا من صنعك دخيل عليه وغريب عنه, ولعل هذا ما يفسر لنا كيف انتقض العقل المصري الأصيل غضبا في30 يونيو الماضي عندما استشعر الخطر وأحس بأن روحه الأصلية أصبحت مهددة بمحاولات بائسة تتصف بالرعونة والطيش وتستهدف طمسها وتزييفها, حقا أن المقاربة قد تبدو مضللة إلي حد ما لو أدخلنا في اعتبارنا أن ما أراد هيجل الكشف عنه في مذهبه ليس روح شعب بالذات وإنما الروح الكلية أو روح العالم, فعبقرية الشعوب عند هيجل بدت كأفكار مشخصه تستمد حقيقتها من الروح الكلية كمنفذة لإرادتها, لكن هذا لا ينفي تجاهل الروح الخاصة لكل شعب, ولعل هذا ما دفعه إلي الإحاطة بالعالم التاريخي ككل, فقد أتجه إلي الاهتمام بالعالم التاريخي في شموله, فتكلم عن الحضارات الشرقية القديمة في الصين والهند ومصر, كما تكلم عن الحضارات اليونانية والرومانية والجرمانية والحق إنه ما كان بمقدوره أن يتكلم عن الروح الكلية بصورة مجردة معزولة عن الخوض في روح كل شعب وخصائص كل حضارة, فلكل شعب عند هيجل روح شخصية فردية قائمة بذاتها وكيان جزئي يتميز به في وجوده الموضوعي ووعيه بالذات.. H استاذ الفلسلفة بجامعة طنطا لمزيد من مقالات د . مجدى الجزيرى