إنهارت قيم للأخلاق والمعرفة في مجتمعنا وتشوشت مفاهيم للحرية والديموقراطية في أذهاننا يوم تخلت المؤسسة التعليمية عن أداء رسالتها وتخلت هذه المؤسسة عن رسالتها يوم أصبحت الدروس الخصوصية تعليما موازيا حل فعليا محل المؤسسة التعليمية الوطنية. وأصبحت الدروس الخصوصية تعليما موازيا يوم رحنا نرقب في صمت وعجز استشراء هذه الظاهرة الكارثية في منظومة التعليم في مصر. فقد تنازلت المدرسة عن تنمية قيم المعرفة والتفكير النقدي والإبداع حين اختفت عمدا من جداولها وبرامجها الأنشطة المدرسية المتنوعة الكفيلة بتنمية هذه الملكات والمهارات. اغتالت الدروس الخصوصية هذه الأدوار التربوية والثقافية والإبداعية. وشاركت مؤسسة المدرسة ذاتها في هذا الاغتيال. وكان الثمن تدوير جزء من عائد شبكات الدروس الخصوصية التي امتدت الي فصول الروضة ثم تسللت الي الجامعات نفسها. من بين كل مائة طالب مصري هناك69 طالبا في المتوسط العام يتلقون دروسا خصوصية. وإذا كانت هذه هي النسبة التي رصدتها دراسة لمركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء فالأرجح أن النسبة تزيد علي ذلك في مرحلة الثانوية العامة. وفي دراسة أعدها الباحثان عادل سلطان ومحمد عبد الجواد للمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية فإنه بين كل مائة جنيه تنفقها الأسر المصرية علي التعليم تستوعب الدروس الخصوصية وحدها75 جنيها تصل إلي84 جنيها في مرحلة الثانوية العامة. يحدث هذا في ظل دساتير مصر الحديثة التي تؤكد جميعها علي مجانية التعليم! ويحدث هذا في ظل ثقافة إيثار السلامة التي ينتهجها المسئولون عن التعليم في مصر خوفا من وضع أيديهم في أعشاش الدبابير وجماعات مصالح الدروس الخصوصية. ويحدث هذا أيضا في ظل حكومات متعاقبة لم تحاول قط ممارسة الخيال وابتكار الحلول لمعضلة قلة الموارد وتزايد الأعداد من خلال إنشاء صندوق للتمويل الأهلي يكتتب فيه المواطنون جزءا مما يدفعونه للدروس الخصوصية علي سبيل المثال. اذا كانت الأرقام السابقة تبعث علي القلق فهي من حيث دلالاتها تثير الفزع. فقد أدت ظاهرة الدروس الخصوصية إلي تهميش مؤسسة التعليم الرسمي وتفريغها من أدوارها التربوية والثقافية والاجتماعية وحتي الوطنية. يري البعض أن ظاهرة الدروس الخصوصية سبب لانهيار التعليم ويري فيها آخرون نتيجة لهذا الانهيار. والأرجح أنها مزيج من السبب والنتيجة معا. فهي( سبب) لانهيار التعليم بقدر ما شوهت الوظيفة المعرفية للمدرسة وجعلت الهدف الوحيد منها هو كيفية اجتياز امتحان آخر العام وليس تنمية ملكات التفكير الحر والنقد والإبداع. فأصبحت كل منظومتنا التعليمية في المدارس والجامعات مبنية علي فكرة اجتياز الامتحانات. والدروس الخصوصية( نتيجة) لانهيار التعليم بقدر ما أسهم ضعف بل تدني مستوي التعليم الرسمي في استشرائها وتفاقمها بسبب كثرة أعداد الطلاب تارة وقلة دخل المعلم تارة أخري. يحار المرء وهو يقرأ الكتب وأعمال المؤتمرات والندوات وورش العمل التي اتخذت من الدروس الخصوصية موضوعا للبحث والنقاش, فكل التقارير والدراسات لم تترك جانبا من هذه الظاهرة الا وقدمت بشأنه الحلول والتوصيات. السؤال إذن اذا كانت هذه الدراسات والأبحاث قد وصلت لصناع القرار السياسي والمسئولين عن التعليم فلماذا هذا التجاهل واللا مبالاة؟ هل لأن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب من السياسات والوسائل والقرارات ما يتجاوز قدرة الدولة وإمكاناتها أم انها تتجاوز شجاعة صناع القرار أنفسهم؟ هناك بالطبع أسباب لظاهرة الدروس الخصوصية قد تتجاوز المسئولية المباشرة لأي حكومة حالية. هذه الأسباب متراكمة ومتوارثة تتعلق ببنية التعليم المصري نفسه وتدهوره المتواصل عبر السنين بسبب نقص الموارد والإمكانات مثل الازدحام الشديد في الفصول الدراسية والذي وصل معدله أحيانا إلي120 طالبا في الفصل الواحد بحسب تصريح لوزير التربية والتعليم محمود أبو النصر في19 سبتمبر2013( صحيفة الشروق2013/9/19) وهناك الأوضاع المتردية لمرتبات المعلمين التي لا تكفي لتوفير الحد الأدني من المتطلبات المعيشية. لكن العجيب أن أحدا من الذين يعتقدون أن تكدس التلاميذ في فصولهم بأعداد كبيرة هو سبب الدروس الخصوصية لم يتوقف ليتأمل مراكز الدروس الخصوصية التي تغص بأكثر من مائة تلميذ في القاعة الواحدة. فلماذا كانت العملية التعليمية فاشلة في فصل دراسي يمتلئ بستين او سبعين تلميذا بينما يمتلك المدرس الخصوصي فجأة القدرة علي إنجاح العملية التعليمية ذاتها في قاعة تزدحم بنحو مائتي تلميذ؟ من الغريب أيضا أن يبرر البعض الدروس الخصوصية بحاجة المدرس إلي دخل إضافي لتلبية احتياجاته المعيشية متجاهلا أن معظم المدرسين قد جعلوا من الدروس الخصوصية نشاطا تجاريا صرفا ومنظما يحققون به دخولا طائلة ولم تعد المسألة مجرد توفير دخل إضافي لسد الحاجات الأساسية. قد تقدم الأسباب السابقة تفسيرا لظاهرة الدروس الخصوصية يتجاوز المسئولية المباشرة لحكومة ما في لحظة معينة لكن المؤكد ان هناك أسبابا لا يمكن أن تتنصل منها أي حكومة مصرية بشأن تفاقم هذه الظاهرة خلال الأربعين عاما الماضية. كان يمكن للحكومات المصرية المتعاقبة مواجهة استشراء الدروس الخصوصية لو أنها بادرت بإعمال قواعد وآليات الرقابة والمساءلة في مواجهة جحافل المعلمين الذين تركوا واجباتهم المهنية الرسمية بتواطؤ مكشوف مع قيادات إدارية علي مستويات عدة وانصرفوا لممارسة( تجارتهم) المنظمة الممنهجة.حين يقارن المرء بين الظاهرة في مصر وبين نظيراتها في المجتمعات الاخري من خلال الدراسة الشاملة التي اصدرها المعهد الدولي للتخطيط التربوي التابع لليونسكو بعنوان تعليم الظل- أي سياسات حكومية لأي دروس خصوصية يدرك ان الظاهرة لدينا قد بلغت حدود اللامعقول. مجرد تساؤل أيهما نصدق: حصول مئات من طلابنا في الثانوية العامة علي100% و101% أم حصول مصر علي المرتبة145 من بين148 دولة في العالم في مؤشر جودة التعليم مسبوقة بأفقر الدول الافريقية وكل الدول العربية ؟ لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم