الأدب إنتاج بشري يمثل تفاعل الإنسان مع ما حوله وما انتهي إليه من السلف من فكر وصور ومواقف وما إلي ذلك بطرائق اتفق علي أنها قادرة علي دفع القارئ إلي التفاعل إيجابيا أو سلبيا معها. وهو التفاعل الذي يؤدي إلي' تحريك الذهن والمشاعر' بمعني إثارة التأمل الذي يعمق الوعي ويثريه بصور جمالية يتفاوت تعريفها بين مدارس علم الجمال المختلفة. ولقد احتفظت الإنسانية بالآثار الأدبية الكبري وسجلتها, ووضع النقاد لها تفسيرات معينة, واستخرجوا منها معايير محددة تتفق فيها ومن ثم اتجه القول إلي أنها من العناصر المكونة لكل أدب, ثم تعمق النقاد وتوسعوا فجعلوا لكل نوع أدبي معايير خاصة به, وذلك من أجل تيسير الدرس للناشئة وتيسير التمييز بين الأنواع, وأيضا وهذا هو مربط الفرس كما يقولون بين ما هو أدب وما هو غير أدب. ولكن إنتاج البشر لا يحدث في فراغ, ما دام ثمرة للحياة المادية والعقلية والنفسية المتغيرة في أماكن معينة وأزمنة معينة, ومن ثم نشأ التفاوت بل والتضارب بين مجموعات المعايير التي يحددها النقاد في زمن معين ويرثها من يعيشون في زمن آخر, فيتعذر عليهم قبولها أو إذا قبلوها صعب عليهم قبول ما أصبح الأدب عليه في زمانهم, والمعروف أن أقدم الأنواع الأدبية التي حفظتها البشرية فن الشعر, ذلك أنه ارتبط ببعض العادات والشعائر التي كانت تصاحبها الموسيقي, وكانت تنشد في المعابد أولا ثم انتقلت إلي احتفالات المجتمعات المحلية واصطبغت بالصور الجماعية تأليفا وأداء, ومنها نشأ في العالم القديم أكثر من فن شعري ساعدت مظاهره الشكلية كالوزن والقافية علي حفظه في ذاكرة الناس, ومنه نشأت الملاحم والمسرح والشعر الغنائي( أي الذي يقوله الشاعر بصوته الشخصي) وغير ذلك حتي ما حفظته لنا البرديات المصرية من أناشيد أوزوريس( وحاول أحد الغربيين أن يقنعني بوضعها في قالب مسرحي بالإنجليزية)... وقل ما شئت عن الشعر العربي القديم الذي يقول الباحثون إنه تفرق واختفي في نحو القرن الخامس الميلادي بعد بلورة اللغات السامية( إذا صدقت نظرية انفصالها عن اللغة السامية الأم) وتطور اللغة العربية في الفترة السابقة للإسلام. والباحثون في تاريخ الآداب العالمية يرصدون هذه المعايير المستقاة من الأعمال الأدبية ويبينون كيف اختلفت عبر العصور, وما انتهت إليه في عصرنا هذا, وإن استقر السؤال الأساسي الخاص بتمييز ما هو أدب عما هو غير أدب في مجال علم الجمال الذي تطورت معاييره الشكلية, التناسق, التوازي, التقابل, التضاد... إلخ] البنائية, التصاعد, التوسع, الانحدار.. إلخ] مثلما تطورت معاييره الدلالية التي تتصل بالمادة الإنسانية التي يتناولها الأديب, وانظر اختلاف كروتشه وسانتيانا عن لوكاتش مثلا] بمعني عمق نظرته للكيان الإنساني وفكره ومشاعره في ظل نظم بشرية صنعها بيده فلم يحسن الصنع في معظم الأحوال. ومعني هذا أن التغيير الشكلي( ولنضرب مثلا من الشعر العربي) من الشعر العمودي إلي شعر التفعيلة لم يمس المعايير الإنسانية التي تنطبق عليهما جميعا, فنحن نطرب لقراءة الشعر العمودي بأشكاله المنوعة مثلما نطرب لقراءة شعر التفعيلة بأشكاله الأكثر تنوعا, بل ونطرب لشعر العبقري صلاح اهين بالعامية المصرية( شعر التفعيلة في القصائد والعمودي في الرباعيات) مثلما نطرب للشاعر الشعبي الذي يحكي الأبنودي ملاحمه الطريفة. وإذا كانت المادة الإنسانية هي المقياس حقا, مهما تكن المعايير الشكلية, فإن هذا يجعل فكرة' النسبية النقدية' التي دعا إليها أحد الأساتذة الأمريكيين تكتسب بعدا جديدا, فالأستاذ المذكور( واسمه وتل) يقول إنها تعني أن الأدب هو ما يتفق النقاد في أي عصر علي أنه أدب مهما يكن شكله, وأما البعد الجديد الذي أقصده فهو استبدال كلمة القراء بكلمة' النقاد' لديه, فالقارئ مقياس أصدق وأشد إخلاصا, فإنما يكتب الكاتب للقارئ لا للناقد, والقارئ( أي جمهور القراء) يؤثر في المسار الذي يختاره الشاعر, وهنا تبرز أهمية الفكرة التي أوضحها هكسلي في دراسته عن' الكتاب والقراء' استنادا إلي ما قاله كولريدج منذ مئتي عام حين ذكر أن الشاعر يسهم في تكوين الذائقة التي يستخدمها القراء في تذوقه, بمعني أن القراء الذين يدرجون علي قراءة نوع معين من الشعر صنعته لهم مجموعة معينة من الشعراء لن يطلبوا سوي ما درجوا عليه بعد أن علمهم هؤلاء الشعراء أن هذا هو الشعر, والنسبية النقدية تعني هنا أننا نقيس جودة هذا الشعر بمعايير هؤلاء الشعراء التي نقلوها إلي القراء, فالقراء يطلبون هذا الشعر ولا يريدون غيره لأنهم تذوقوه صغارا وعاشوا علي حبه كبارا, وإذا جاء ناقد من عصر لاحق فانتقد ذلك الشعر لأية أسباب يراها من دون أن يرجع إلي القراء في عصر الشاعر ثم في عصره, فربما كان يتنكر للنسبية النقدية. ولأضرب مثلا حيا من الشعر العربي: إننا نقرأ شعر المتنبي الساحر كأنما كتبه اليوم لا بالأمس, وشعره مازال علي شفاه الناس يرددونه من دون أن يدروا أنه شعره, وحتي إذا وجدنا فيه صعوبة فلابد أن نذكر أن أهل زمانه كانوا يفهمونه علي عكس من يحاكيه اليوم معتمدا علي معايير شكلية لا أظنها تمثل جوهر الشعر, وينطبق هذا علي غيره, ولننظر في شاعر اشتهر برقته وظرفه, وهو عمر بن أبي ربيعة الذي يقول: ولثمت فاها ممسكا بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج إن الشاعر يكلم من يعرف أن النزيف هو العطشان, وأن الحشرج هو الماء البارد في جانب الكهف في الجبل, ولكن علي الجارم عندما يقول: المجد فوق متون الضمر القودتطوي الفلا ما بين إيجاف وتوخيد فإنما يخاطب غيره من الشعراء( والنقاد), خصوصا شوقي وحافظ ومطران الذين كانوا يتباهون بالعربية التراثية, إذ كان الشاعر آنذاك في العشرين من عمره ونزل الحلبة ليطاول حفني ناصف وأضرابه من أساتذة دار العلوم, ولذا لم يحتفل بالقصيدة القراء( وهي موجهة إلي الإمام محمد عبده), وأما حين نضج فقد استطاع الوصول إلي القراء والمستمعين إذ غنت أم كلثوم من شعره قبل أن تغني لشوقي وحافظ. القارئ إذن يجب أن يكون العامل المهم في نظرة النسبية النقدية, والقارئ أقرب إلي الإحساس بالمادة الإنسانية واستيعابها من الناقد الذي قد تكون ذائقته الأدبية قد تصلبت وتوقفت عند مذاهب أدبية معينة, ولذلك لم أدهش عندما طبعت مكتبة الأسرة عام1995 خمسين ألف نسخة من شعر شوقي( مختارات) ومثلها من شعر حافظ, فبيعت الكمية الأولي عن آخرها في أيام معدودة, ولم يبع من حافظ إلا ثلاثون ألفا, ولن أقول كم استبشرت خيرا آنذاك( لا بتفوق شوقي شعبيا علي حافظ طبعا) بل لأنني أحسست بأننا شعب لا يزال يقرأ الشعر, وأن القارئ علي الرغم من التدهور الذي حدث في التعليم في السنوات الأخيرة مازال مرجعا يعتد به. لمزيد من مقالات د.محمد عنانى