أدعو إلي علاقات ثقافية مع الآداب الإفريقية والآسيوية الدكتور محمدعناني اسم لا يحتاج الي تقديم. يطلقون عليه »شيخ النقاد والمترجمين« فهو الشاعر والمؤلف المسرحي والناقد والمترجم , يبهرك بغزارة وتنوع ما ترجمه من شعر ورواية وادب ومسرح، عشق شكسبير. انتهي أخيرا من المسرحية رقم 22 لشكسبير. إنه الوحيد الذي ترجم كل هذا الكم المذهل من أعماله. يعشق اللغة العربية رغم انغماسه طول الوقت في اللغة الإنجليزية ويري ان عشقه لها سر تميزه كمترجم، بل جعلها كلمة السر التي يهمس بها لكل طلابه ممن يريدون العمل بالترجمة »اعشقوا واتقنوا لغتكم ثم انطلقوا لكل اللغات بلا خوف«. ذهبت الي محرابه وبالكاد عثرت علي مقعد خال من الكتب التي يعج بها مكتبه.. وكان معه هذا الحوار. المبيعات السرية هل هناك أزمة في الترجمة الأدبية في العالم العربي الآن؟ - نعم : مظاهر الازمة اننا ما زلنا نجري وراء المبيعات السريعة والعناوين التي تشد الجمهور , فنقبل علي الكتب سواء كانت روايات او شعرا او مسرحا والتي لها ربح مضمون , او كفيلة بتحقيق الدعاية للناشر او المترجم، فمن بين مئات الأعمال الأدبية الكلاسكية العالمية لم نترجم الي العربية إلا 10٪ علي الأكثر وهذه الأزمة لها آثارها غير المقبولة علي الإطلاق الا وهي الإيحاء لقراء العربية أن الأدب العالمي ينحصر في نسبة ال 10٪ المذكورة, ومن الغريب ان اساتذة اللغات الاجنبية لا يكترثون علي الاطلاق لهذه الحالة المذرية، فهم يفضلون العمل وفق مشيئة دور النشر وتقديم الأعمال مضمونة الرواج . منذ 35 عاما بدأت في حل منفرد ومتواضع لهذه المشكلة فبدأت ترجمة الفردوس المفقود للشاعر ملتون والملحمة تتكون من أحد عشر الف بيت من الشعر، وقد داومت علي إصدارها في اجزاء حتي اكتملت عام 2002 ونشرت مع مقدمة وافية وحواش وافية ثم وجدت أن شكسبير قد ظلم ظلمًا شديدًا، بأن أقدم عدد من المترجمين علي ترجمة المسرحيات مضمونة المكسب مثل هاملت وعطيل ومكبث، والملك لير وتجاهلوا سائر اعمال الشاعر العظيم . أما مشروع جامعة الدول العربية فقد توقف، وكان منهجه في الترجمة بدائياً بمعني ان المترجمين كانوا يهدفون الي تقديم معامل الفاظ وحسب، لا الي تقديم مسرح شعري من النوع الذي نعرفه عند احمد شوقي وعزيز اباظه وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور, اي انهم لم يكونوا يقدمون أدباً يقرأه الناس فيشعرون فيه بمدي عظمة شكسبير , ناهيك عن أن الترجمات لم تكن مصحوبة بمقدمات او حواش، ومن ثم شرعت منذ أوائل التسعينات في استكمال هذا النقص , بأن ترجمت شكسبير كما كتبه الشاعر، اي ترجمت الشعر شعراً والنثر نثراً , وغيرت البحور وفقاً لتغيرها عند الشاعر وقس علي ذلك القافية وباقي الملامح الشعرية. واذا أتينا للرواية الطويلة وجدنا ان النقص في الترجمات منها نقص رهيب, فلا يكاد القارئ العربي يجد عيون الأداب العالمية بمختلف اللغات مترجمة الي العربية، والمحاولات التي جرت لتقديم بعض هذه الروايات محدودة جداً وليست من اللغات الاصلية مثل ترجمة دوستوفسكي وتولستوي وتشيخوف وجوجل عن الروسية وغيرهم عن اللغات الاوربية الاخري الي هذا اليوم , ولذلك فالقارئ العربي محروم من الاطلاع علي هذه الروائع باللغة العربية بينما يتمتع قارئ الانجليزية بقراءة آداب العالم كله مترجماً الي الانجليزية. هذه الازمة بدأت معالجتها علي نطاق ضيق في هيئات وزارة الثقافة وتحديداً في سلسلة الجوائز التي تقدمها هيئة الكتاب وسلسلة الأعمال الأدبية التي يقدمها المركز القومي للترجمة, اما دور النشر الخاصة فعينها دائماً علي الربح ولا شيء سوي الربح . المترجم.. مسلحا ما الحل من وجهة نظرك؟ - يتمثل اولا في التمكن من اللغة العربية لأن اساس المترجم اللغة العربية ولو لم نول اللغة العربية الاهتمام اللازم لقضينا علي مستقبل الترجمة برمته ....لماذا ؟ أولا: لان المترجم يجب ان يفهم اولاً النص العربي إن كان سوف يترجمه الي اللغة الانجليزية . ثانيا . لابد ان يتسلح المترجم بمقدرة خاصة في اللغة العربية حتي يستطيع ان يجد المقابل لما يقرأه باللغات الاجنبية . ثالثا. أن يكون المترجم - وانا اقصد مترجم الادب - علي دراية كاملة بالأساليب والبلاغة العربية حتي لا يعجز عن توصيل جمال النص الاجنبي الي القارئ العربي، انا لا اطالب المترجمين الناشئين بأن يذهبوا الي الكُتاب مثلي فقد انتهي عصر »الكُتاب« ولكن عليهم ان يجتهدوا في دراسة اللغة العربية اجتهادهم في دراسة اللغات الأجنبية. وعموماً لا اتوقع من خريجي المدارس الأجنبية أي خير, فقد يكون اسمها مدرسة للغات ولكن كل ما تفعله هو ان تقضي علي اللغة العربية، ولن نتدارك هذا الخطر الا اذا قام المنزل بمهمته الأساسية في نظري وهي تعليم الأطفال ما يسمي باللغة الام، فالأم اليوم مشغولة اما بالعمل او بمسائل أخري لا علاقة لها باللغة العربية، هذا إذا كانت تجيد اللغة العربية اصلاً. انا اتكلم من موقعي كمعلم يشهد بعينه تدهور اللغة العربية في خريجي المدارس الأجنبية والحكومية علي حد سواء فمن غير المقبول علي الإطلاق ان اجد طلابا في مرحلة الدراسات العليا لا يستطيعون الإعراب ولا الهجاء ولا كتابة جمل لها معني، هذا الحال هو الواقع الأليم الذي نحن فيه بالنسبة لجيل كامل من الطلاب في مدارسنا، وليست القضية قضية دروس خصوصية او إنفاق مال او اي مشاكل من التي تتناولها الصحف . هل يعقل ان يجهل طلاب دبلوم الترجمة شعراء مثل المتنبي واحمد شوقي وصلاح عبد الصبور ؟ هذه كارثة. عيون الأدب العالمي حدثنا عن جديدك في الترجمة ؟ - انا اعكف علي تقديم عيون الادب العالمي الي قارئ العربية وفي الوقت نفسه أقدم عددا من الكتب التي تناقش مبحث دراسات الترجمة الحديث في المركز القومي للترجمة، انتهيت من كتابين وهما في المطبعة الآن، الأول بعنوان »بناء الثقافات« والثاني »عقبات ثقافية« والثالث الذي اعمل فيه حالياً »الترجمة بين العولمة والمحلية من منظور اللغة الصينية« كما انتهيت من كتاب بعنوان »المفكرون الاساسيون من النظرية النقدية الي ما بعد الماركسية«,كما اعمل الان في المسرحية رقم 22 من مؤلفات شكسبير بعنوان »دقة بدقة«. بين الإبداع والنقد احتار البعض في تصنيفك بين شاعر ومترجم ومؤلف مسرحي.. أيها تفضل؟ أنا أري نفسي كاتباً وأعتبر ان تصريف الفعل كتب هو كما يقول فوزي فهمي قرأ يقرأ فهو كاتب، أي أنني أقرأ كثيرا واكتب قليلاً اما ما أقرأه فهو يندرج في نطاق العلوم الإنسانية التي اصبحت تمثل وحدة متكاملة تصب في اهتمامي الأساسي وهو الادب، فأنا أقرأ في الفلسفة وعلم النفس وعلم الأحياءوعلم الاجتماع والتاريخ، بل واترجم احياناً كتبا تتصل بصلة ما بهذه العلوم الانسانية لأنها جميعا اصبحت لا غني عنها للأبد فالأديب قد يكتب مسرحية بناء علي موقف تاريخي قرأه في كتاب تاريخ، مثلما حدث بالنسبة لمسرحيتين »جاسوس في قصر السلطان« المسرح القومي 1992 ومسرحيتي الأخري »الغربان« مسرح الطليعة 1988 وكلاهما بالمناسبة مكتوبتان بالشعر . وقد يقرأ الكاتب كتاباً في النقد الادبي فيهتدي به فيما يكتبه من ادب، ولذلك فقد تداخلت هذه العلوم الإنسانية تحت مظلة الثقافة واصبح الناقد مطالباً بان يزيد علمه في كل باب من هذه الابواب . انا اعلم ان انتاجي الشعري محدود لأن الابداع الشعري يتطلب عناءً لم اعد اتحمله وأستعيض عن ذلك بلذة شعر الأريين واذا راودتني النفس الأمارة بالشعر أطعتها وكتبته, ولكنني حذراً أشد الحذر في نشر ما أكتب, اما الرواية فقد كتبت رواية وحيدة عنوانها "الجزيرة الخضراء" وهي تمزج ما بين التاريخ الحقيقي والأدب الخيالي والخبرة الشخصية في بلدي رشيد . بيت الأسرار قلت ان الترجمة رحلة اكتشاف ماذا كنت تقصد بهذا الوصف؟ - اللغة هي بيت الوجود كما يقول هاديجر وهي بيت الأسرار كما يقول الشعراء الرومانسيون , ولا يستطيع ان يكتشف هذه الاسرار الا المترجم. القارئ العادي يمر مر الكرام علي كثيرمما يقرأ بل لا يكاد يلتفت الا ما تخفيه الكلمات من معان ودلالات وما أندر من يتذوق نصا مكتوبا. ولكنك حين تترجم تجد انك تغوص في معاني الالفاظ وتراكيبها ونجد انك مشدود الي ما تراه ولا يراه غيرك , صحيح انك تعاني عند الترجمة من محاولة ايجاد الألفاظ المناسبة بدقة او الموازية او المعادلة ولكنك في غمار هذه المعاناة تستمتع ايما استمتاع . لا يمكن ترجمته يقول البعض ان اصعب الترجمات هي ترجمة الشعر لانه نبض واحساس يصعب معه الترجمة ما رأيك في تلك المقولة ؟ - الشعر لا يمكن ترجمته بحيث يقدم المترجم بديلاً عن النص الأصلي ولكنه من الممكن ان يترجم بحيث يقدم المترجم صورة تقترب الي اقصي حد من النص الأصلي , وبالمناسبة ما يقال عن الشعر يقال عن النثر، فترجمة اي نص ادبي بحيث نضمن تقديم البديل أمراً مستحيلاً , ولكن المترجم يستوعب القصيدة بأوزانها وقوافيها ثم يقدم الينا صورة أخري لها , ولذلك فعيون الشعر العالمي تترجم مرة من بعد مرة وفي كل عصر وفقاً لذائقة هذا العصر ومدي استجابته للنص الاصلي , عندي خمس ترجمات انجليزية لمسرحية جوته »فاوست« كلها منظومة ولكن كل ترجمة تختلف وفق الفترة التي صدرت فيها، والمترجم الذي ابدعها , ولدي كتاب عنوانه »ست ترجمات لمسرحية هاملت باللغة الفرنسية« يري القارئ ان المترجمين كانوا يقدمون مفهوم عصرهم ومفهومهم الشخصي للمسرحية ولذلك عندما ترجمت مسرحية »هاملت« قرأت عشرات الكتب في شرحها حتي اصل الي مبتغاي ألا وهو تمثل لروح شكسبير، لو انه كان عربيا وكتب هذا النص فماذا عساه يقول؟ وانا واثق ان المستقبل سيأتي بمترجم آخر يري في النص غير ما رأيت، ويترجمه بأسلوب يختلف عن اسلوبي، لانني رغم حرصي الشديد بل المبالغ فيه علي تقديم مقاصد شكسبير من كلامه ومحاكاة اوزانه وقوافيه اشعر ان النص الذي ترجمته ليس بديلاً عن النص الأصلي. مشكلة الجمهور كيف تري المسرح الآن وكيف تتوقع مستقبله في السنوات القادمة؟ - المسرح المصري يمر بمرحلة اسميها »مشكلة الجمهور«. ما هذه المشكلة ؟ الجمهور الذي نشأ في الستينيات وكان من السهل عليه الوصول الي المسرح وقضاء ساعتين في متعة والعودة بسهولة نسبية , هذا الجمهور اختفي ...لماذا ؟ لأن التليفزيون خلق لنا جمهورا لا يقيم وزناً للتفاعل مع المسرح الحي, أي مواجهة خشبة المسرح وعليها الممثلون الأحياء يؤدون الأدوار ليلة بعد ليلة, بل اصبح الجمهور الي حد ما من ضحايا ازمة المواصلات. كيف اصل الي المسرح؟ بالسيارة بالمواصلات العامة؟ واذا انتهت المسرحية كيف أعود الي المنزل؟ هذه الصعوبات لم يقدم المسرح مكافأة للمشاهد تعوضه عنها. حالياً اصبحنا أسري العروض القصيرة التي يقل فيها الممثلون ويقل فيها الجمهور وتقل مدة عرضها بحيث تكاد تنتمي الي موجة المسرح التجريبي. اما مستقبل المسرح المصري إن كتبت له الحياة يتوقف علي ان ينتقل المسرح للجمهور بدلاً من ان ينتقل الجمهور الي المسرح .. ما معني هذا ؟ معني هذا ان تكون لكل هيئة اجهزة او جهاز مسرحي يقدم المسرح للعاملين في الهيئة والمقيمين في المنطقة نفسها ، بحيث لا يضطر احد الي استخدام المواصلات، علي سبيل المثال لا بد ان يكون للعمال مسرحهم وان تضم الفرق التي تعرض لديهم مزيجا من المحترفين والعمال الذين لديهم ميول تمثيلية. الجامعات، لا بد من احياء المسرح الجامعي وغرس عادة مشاهدة المسرح لدي الطلاب نهاراً لا ليلاً .. في كل مسارح العالم العروض المسرحية بعضها نهاري وبعضها ليلي الا في مصر، من شأن هذا ان يزيل الفكرة الخاطئة التي عششت في أذهان العامة في ان المسرح مكان للهو وسماع الفكاهات والضحك لمدة ساعتين أو ثلاث كما يحدث في القطاع الخاص . الأدب الأفريقي والآسيوي قلت ان الترجمة لابد ان تصل لمعظم دول قارة افريقيا .. هل تجد ان هناك تقصيرا في حركة الترجمة هناك؟ - انتهي تجاهل الشعوب الأفريقية والآسيوية، وفي رأيي ان التجاهل الذي شهدناه علي مدي ثلاثين عاماً لابد ان ينتهي وذلك بأن تتكاتف جهود المثقفين في مصر مع المثقفين في بلدان افريقيا واقامة علاقات ثقافية حية لا تقتصر علي تبادل الوفود بل تتجاوز هذا الي نشر ادبنا المترجم عندهم ونشر آدابهم المترجمة عندنا . مثلاً بلدان مثل الهند وماليزيا واندونسيا تقرأ اللغة الانجليزية وهي تمثّل سوقاً متعطشة للأدب العربي المترجم. ويسعدني أن ازف هذا الخبر، نحن نقوم بإحياء مشروع ترجمة الأدب العربي إلي اللغة الانجليزية بعد ان توقف ثماني سنوات وسنبدأ السلسلة بإشراف الدكتور احمد مجاهد وهي الاعمال المسرحية الكاملة لصلاح عبد الصبور ويليها مختارات من مسرح الفرد، ومختارات من القصص المصرية وهكذا ... لان الطلب عليها في الخارج كبير للغاية. حيرة المثقف المصري هل أنت راض عن دور المثقف الآن؟ - المثقف مازال يقوم بدوره رغم اختلاف العقبات, فلدينا في مصر بكل أسف تقاليد تفرض الرقابة الذاتية علي الكتاب وانا لا الومهم اذا راعوا تلك التقاليد، وانا اري ان المثقف المصري في حيرة بل مظلوم ايضاً، إن تكلم كان مصيره الحبس وان صمت قالوا عنه انه متخاذل وخائن، اري ان القضية تتعلق بالمناخ السياسي فإذا اتيحت له مساحة يتحرك فيها المثقف بحرية دون قيود فأنا واثق من ان العالم كله سيري أن المثقف المصري قادر علي قلب كل الموازين في مجتمعه الخروج من المرحلة الصعبة كيف تري مستقبل الثقافة في تلك الفترة الفاصلة في تاريخ مصر وبعد هيمنة التيارات الاسلامية علي المشهد السياسي؟ - احيانا لا اعرف ماذا اتوقع.. لكنني متفائل بطبعي أي أن الله خلقني ببسمة علي شفتي، وأعتقد أن مصر التي نجت من أهوال أنكي وأشد مما نشهده الآن من تخبط وضبابية ستخرج من تلك المرحلة الصعبة. سوف نواجه تكميم بعض الأفواه لكني أسأل: ألم نشهد مثل هذا من قبل وتغلبنا عليه ؟ اقول ان الشعب الذي حقق ما حقق علي مدي قرنين من الزمان لم يعجز علي تجاوز اللحظة. وفي هذا الصدد سيستمر المثقفون في النهوض بالدور الذي لعبوه أثناء حكم اسرة محمد علي وأثناء الاحتلال البريطاني وأثناء ديكتاتورية الحكومة العسكرية وعلي مر العصور سوف يظل المثقف هو المبشر والمنذر والحالم بغد افضل لكل العالم.