تامر حسني باحتفالية مجلس القبائل والعائلات المصرية    وزير الصناعة الإيطالي: نرحب بتقديم خبراتنا لمصر في تطوير الشركات المتوسطة والصغيرة    أسعار الذهب في ختام تعاملات الخميس 25 أبريل    غدًا.. قطع المياه عن نجع حمادي لمدة 12 ساعة    الأغذية العالمي: هناك حاجة لزيادة حجم المساعدات بغزة    بعد خسارة الرجال والسيدات بكأس الكؤوس.. يوم حزين لكرة اليد الأهلاوية    محافظ الإسكندرية يستقبل الملك أحمد فؤاد الثاني في ستاد الإسكندرية الرياضي الدولي    حملات مكثقة في أحياء الزيتون وحدائق القبة لإزالة الأشغالات    تكريم المخرجة هالة جلال بمهرجان الإسكندرية الدولي للفيلم القصير    سفير تركيا بالقاهرة يهنئ مصر بذكرى تحرير سيناء    عضو «مجلس الأهلي» ينتقد التوقيت الصيفي: «فين المنطق؟»    4 أبراج فلكية يحب مواليدها فصل الصيف.. «بينتظرونه بفارغ الصبر»    محمد الباز: يجب وضع ضوابط محددة لتغطية جنازات وأفراح المشاهير    خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف مكتوبة 26-4-2024 (نص كامل)    طريقة عمل الكبسة السعودي بالدجاج.. طريقة سهلة واقتصادية    حمادة أنور ل«المصري اليوم»: هذا ما ينقص الزمالك والأهلي في بطولات أفريقيا    التنمية المحلية تزف بشرى سارة لأصحاب طلبات التصالح على مخالفات البناء    الجيل: كلمة الرئيس السيسي طمأنت قلوب المصريين بمستقبل سيناء    «القاهرة الإخبارية»: دخول 38 مصابا من غزة إلى معبر رفح لتلقي العلاج    عبد العزيز مخيون عن صلاح السعدني بعد رحيله : «أخلاقه كانت نادرة الوجود»    رغم ضغوط الاتحاد الأوروبي.. اليونان لن ترسل أنظمة دفاع جوي إلى أوكرانيا    بيان مهم للقوات المسلحة المغربية بشأن مركب هجرة غير شرعية    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    يقتل طفلًا كل دقيقتين.. «الصحة» تُحذر من مرض خطير    بعد تطبيق التوقيت الصيفي.. تعرف على مواقيت الصلاة غدًا في محافظات الجمهورية    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    عالم أزهري: حب الوطن من الإيمان.. والشهداء أحياء    لماذا حذرت المديريات التعليمية والمدارس من حيازة المحمول أثناء الامتحانات؟    انخفضت 126 ألف جنيه.. سعر أرخص سيارة تقدمها رينو في مصر    جوائزها 100ألف جنيه.. الأوقاف تطلق مسابقة بحثية علمية بالتعاون مع قضايا الدولة    قبل تطبيق التوقيت الصيفي، وزارة الصحة تنصح بتجنب شرب المنبهات    أنشيلوتي يعلن موعد عودة كورتوا من الإصابة    فيديو.. مسئول بالزراعة: نعمل حاليا على نطاق بحثي لزراعة البن    أنطونوف يصف الاتهامات الأمريكية لروسيا حول الأسلحة النووية بالاستفزازية    10 ليالي ل«المواجهة والتجوال».. تعرف على موعد ومكان العرض    هشام نصر يجتمع مع فريق اليد بالزمالك قبل صدام نصف نهائي كأس الكؤوس    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    إدريس: منح مصر استضافة كأس العالم للأندية لليد والعظماء السبع أمر يدعو للفخر    بيان مشترك.. أمريكا و17 دولة تدعو حماس للإفراج عن جميع الرهائن مقابل وقف الحرب    هل تحتسب صلاة الجماعة لمن أدرك التشهد الأخير؟ اعرف آراء الفقهاء    مصادرة 569 كيلو لحوم ودواجن وأسماك مدخنة مجهولة المصدر بالغربية    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    النيابة العامة في الجيزة تحقق في اندلاع حريق داخل مصنع المسابك بالوراق    «الداخلية»: ضبط قضايا اتجار في النقد الأجنبي ب 42 مليون جنيه خلال 24 ساعة    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    مشايخ سيناء في عيد تحريرها: نقف خلف القيادة السياسية لحفظ أمن مصر    إصابة 3 أشخاص في انقلاب سيارة بأطفيح    الرئيس السيسي: خضنا حربا شرسة ضد الإرهاب وكفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة    أبطال سيناء.. «صابحة الرفاعي» فدائية خدعت إسرائيل بقطعة قماش على صدر ابنها    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    التجهيزات النهائية لتشغيل 5 محطات جديدة في الخط الثالث للمترو    خبير في الشؤون الأمريكية: واشنطن غاضبة من تأييد طلاب الجامعات للقضية الفلسطينية    معلق بالسقف.. دفن جثة عامل عثر عليه مشنوقا داخل شقته بأوسيم    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    ملخص أخبار الرياضة اليوم.. إيقاف قيد الزمالك وبقاء تشافي مع برشلونة وحلم ليفربول يتبخر    الهلال الأحمر يوضح خطوات استقبال طائرات المساعدات لغزة - فيديو    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدة جدنا الكبير
نشر في الأهرام اليومي يوم 14 - 11 - 2013

تساءلنا بالهمسات والأصوات الخافتة والدهشة ترتسم علي وجوهنا في أركان الدار, كيف تبدلت تقاطيعها بهذه السرعة وقد تمردت علي التجاعيد, كيف ظلت ملامحها ثابتة واضحة طوال عمرها الممدود وغير المحسوب, ولأنها تخطت أعمار كل المعمرين الذين سبقوها كنا نتحدث عنها بكل زهو باعتبارها علامة لسلالتنا,
ولأن الناس الذين كانوا يتحاكون عنها في كل الناحية لم يعرفوا ما صار إليه حالها بلا مقدمات وعلي غير توقع منا, فتحجرت وتداخلت الملامح وما عدنا نملك القدرة علي تحديد الحد بين الخدين والشفتين أو الجبهة التي انطمست رموش عينيها تماما خلال الشهرين الأخيرين, فصرنا نتأسي عليها ونتهامس أو نتساءل عن أسباب هذا التغير المفاجئ الذي لم نتوقعه بأركان الدار وخارجها, نبث في قلوب بعضنا بعض الأمنيات الحالمة أن تنزاح عنها تلك النكبة غير المتوقعة لها وقد كانت مثل التاج علي رءوسنا ثم تحولت الي هم ثقيل عسير علينا احتماله, وبدلا من تدبر ما يلزم تدبيره تمهيدا ليوم رحيلها وطلوع روحها الذي حسبنا حسابه طوال سنوات طالت وامتدت منذ دبرنا كأحفاد لها وصايا أجدادنا, وقد عاشوا وصاروا أجدادا لأجيال تستلم الوصية وتسلمها جيلا لجيل وكلنا يفكر في أفضل سبل حسن وداعها, ويرتب لبناية ضريحها اللائق أو يرفع مقامها ليكون علامة يتباهي بها الأحفاد وأحفاد الأحفاد أجيالا تأتي من بعدهم وينتسبون اليها, علي هذا النحو كنا نفكر وهي ثابتة في بؤر القلوب شعاعا لا يخبو من حكايات تدعونا للزهو بها والتباهي بما أنجزته لأسرتنا في روايات حفظناها ورددناها.
ثم ارتسم المأزق أمامنا سؤالا ساخرا طرحه فلاح شاب, لا يمت لنا أو لها بقرابة, لكنه تجاسر وسألنا عن كيفية تعريتها وتغسيلها؟ لأنها تحولت إلي صخرة ملمومة علي نفسها وفاقدة لملامحها وقد تحجرت تقاطيعها وتداخلت وذابت الحدود وانطمست رموشها وتوارت, فكرنا في كيفية الخروج من المأزق لو ماتت بالفعل قبل أن نداويها ونعيد صورتها القديمة أو بعضها علي الأقل, حتي ولو اكتفينا بأن تتحول المادة الحجرية التي صارت بادية علي تقاطيعها وأطرافها إلي الحد الذي لا يسمح لأي نفر بأن يتعرف عليها, ثم يشك في أن المرحومة انخطفت من وسط الدار او اتقتلت ثم اندفنت وبدلها الجاني بالكتلة الحجرية الساكنة الصامتة فلا يتحرك فيها غير بؤرتي عينيها, وفكرنا وتحاورنا فزادت مواجعنا لأن ما سمعناه من الغرباء بشماتة أوشك أن يدمعنا ونحن ناسها وأهلها بعار التخلي عنها, وكأننا أهملناها ولم نحافظ عليها من وجهة نظرهم, ورغم أن مثل هذا الادعاء البغيض مستنكر من أي عقل يتفكر علي مهل, إلا أنه واجهنا, فتاهت عقولنا ولم تجد جوابا علي السؤال الذي لم يخطر علي بال أي واحد منا في يوم من الأيام.
وصرنا محاصرين بالخوف من رحيلها وهي علي هذا النحو ببدنها وقد تصخر إلي حد يجعل غسلها ودفنها في مثواها الأخير أمام الناس مستحيلا, وكنا نتساءل أحيانا كيف ظلت ملامحها واضحة وثابتة وخلاياها تنبض بالحياة طوال عمرها الممدود ثم تحجرت بشكل مفاجئ فتداخلت ملامحها أو انطمست, كنا نتأسي شفقة عليها في الأركان أو نتباكي علي الفقيدة قبل الوداع, يحبس الواحد منا دموعه إذا فكر في العبور أمامها ليطمئن قلبه عليها أو يقضي مطلبا يلزمه بالمرور بصحن الدار, يرجع من عبر فنسأله ويرد بكلمات تعبر عن الدهشة متمنيا خلاصها بعد أن يصف هاتين العينين الصاحيتين اللتين تشعان وتبرقان وسط التقاطيع التي تداخلت ثم صارت متباعدة مغايرة لتلك الملامح التي ألفناها, لكنها كانت تتنفس بوهن وكأنها تعلن لمن يراها أنها مازالت علي الأرض تحيا, تتنفس وتشغل نفس الحيز الذي اختارته لنفسها وسكنته بإرادتها بوسط الدار البراح, ومربعها الملموم المجاور لدرجات السلم العتيق بتشكيلاته العريقة ثابت وباق يسهل ترميمه لو انكسرت منه طوبة أو انشرخت قطعة من الخشب, لكننا لا نملك القدرة ولا الوسيلة الفاعلة لعلاجها رغم احفادها الذين درسوا الطب بكل فروعه, لكن احدا منهم لم يقدم لنا تفسيرا لحالتها او يفسر الأسباب التي حولتها علي هذا النحو إلي ما صار إليه حالها, نتماسك ونتحامل بكل العسر تأسيا عليها ونرتب احوالنا ليوم وداعها.
تعايشنا إذن برضانا أو غصبا عنا مع الجدة الكبيرة الصاحية التي تقتعد نفس مكانها وتداري رأسها والحيز الذي كان يميز تقاطيعها ملفوف بطرحتها الحريرية, ومكان وجهها وقد صار مسكونا بالتجاعيد الغويطة أو السطحية المتداخلة ولا يسمح للرائي بأن يحدد حيز الفم او الشفتين المتلاحمتين اللتين تداريان فراغ الفم المؤكد من الأسنان, ومرورا بالأنف المتداخل مع الخدين وقد تاهت الأذنان, ومتكورة علي نفسها والصمت المطلق يشككنا بأنها فقدت الحياة لولا هاتان العينان الصاحيتان اللتان تصبان بريقا متوهجا نحو من يتجاسر ويتأمل متشككا في فقدانها للحياة, وبحسب من شاف وباح فإن نظراتها كانت وهجا عاتبا لائما بغضب يخوف المتأمل الراغب في أن يستوثق من حالتها ليحكي لنا ما شافه.
صارت جدة جدنا تتنفس بوهن إذن لكنها تحيا بيننا وتري, ولو عاودت سؤالي عن عمرها فلن اتمكن من تحديده بالتقريب ولا جزافا, لأنها انولدت بشكل مؤكد في زمن لم تكن فيه شهادة الميلاد تكتب ويتم تسجيلها علي الورق في الأيام الأولي لميلاد الوليد أو الوليدة علي النحو الذي إعتدناه او عرفناه وتأكدنا من وجوده بداية من تاريخ ميلاد آبائنا وأجدادنا القدامي, ولأن جدة جدنا الكبير كانت بنت الزمن الآخر بحسب تأكيدات أكابر الاكابر, وكانت جدة جدنا الذي انولدت قبل رحيله بسبع سنوات فباركني وإحتواني ورعاني ونصحهم بفطامي, ولاعبني وداعبني وعلمني نطق الحروف والأرقام وحفظ ما تيسر من اجزاء عم وتبارك وقد سمع بالمصحف الشريف, ثم كتابة الكلمات ورسم الحروف بخطوط النسخ أو الرقعة أو الثلث وبرغم أننا فقدناه وأنا صبي في السابعة من عمري إلا انه باق في الذاكرة, وشهادة ميلادي التي انكتبت وانحسبت بموجبها سنوات عمري وصارت موثقة ومتاحة بالسجل المدني ثم في صندوق المعاشات ومصلحة الجوازات والجنسية وملف خدمتي بوزارة المعارف العمومية وقد طالت وطالت سنوات وسنوات لا أميل لتحديدها لمن يسألني رغم كونها محسوبة في ذاكرتي وذاكرة الكل, ربما تحاشيا للحسد الذي خوفتني منه جدتنا الكبيرة قبل أن تكف عن الكلام ولأنها نصحتني ألا أبوح للغرباء بسنوات عمري, مثلما خوفت أبي وجدي وذكرتهما بما شاع وانعرف من أن البوح المجاني بسنوات العمر جالب للحسد, ولأن أعمارنا كانت في عيون الآخرين تطول عن أعمار السلالات الأخري من أهالي القرية والمركز والمديرية بكل مراكزها كما كان شائعا, فقد صرنا هدفا مرصودا للحسد كما باحت لنا وصدقناها لو حدثتنا أو حاورتنا قبل أن تؤكد أن أعمارها ستطول وتمتد برضا المولي جل في علاه,وربما بمباركاتها الخالصة وبفضل دعواتها الطالعة من قلبها لمولانا الخالق فاتسعت ساحات ارزاقنا لأن الرب راض عنها وعنا, وسيطول أعمارنا اكثر حتي من عمرها المدود, وكنا نفرح وهي تدعو لنا بالستر في الدنيا والآخرة ووفرة الرزق والفلاح والهداية وتحقيق الأمنيات, وأي واحد من سلالتها كان يشعر انه بفضل رضاها عنه سيتمكن من تخطي كل المصاعب بأصالة معدنه وهي العارفة بمعادن الناس, وأن تظل هامته مرفوعة, فنقول لبعضنا البعض إن المولي عز وجل راض عنها كل الرضا فصفحتها بيضاء لأنها لم ترتكب طوال عمرها الممدود ذنبا بقصد, بحسب تأكيدات وشهادات من عاشروها حتي من غرباء الناس, أما عيالها وعيال عيالها وكبار السن منهم يبوحون لنا بأنهم يفكرون في بناية ضريح يليق بها ومقام بركن الزاوية التي بناها علي ارضه البراح في مدخل الدرب احد أجدادنا القدامي الذين رحلوا قبل أن نراه او يراه الآباء او بعض الأجداد, لكنه ودع دنياه قبل أن يتحقق حلمه بأن يقوم بدفنها بنفسه في الضريح الذي دبر تكاليفه بسخاء وكرم واحتفظ بماله في داره لسنوات وسنوات وقبل رحيله عن الدنيا بأيام شعر بأنه ستوافيه المنية فلملم عياله وطلب منهم أن يحفروا حيزا حدده في ارضية القاعة التي يرقد فيها فاستجابوا وحفروا واخرجوا الكنز المدفون فادهشهم وأبهرهم, وربما حسبوها تركة ستئول إليهم كورثة بحسب شرع الله, وعندما طلب منهم عدم البوح بسره او محتوياته وافقوه, لكنه واصل وطلب من كل واحد منهم أن يقسم علي المصحف الشريف أن تكون محتويات الكنز أمانة في اعناقهم جميعا وأن ينفذوا وعده الذي قطعه علي نفسه, أن يبتنوا لها ضريحا ومقاما لا يشبه اي ضريح او مقام في كل الناحية فطاوعوه ووعدوه بحمل الأمانة, وانهم سوف يقومون بعمل المطلوب منهم توافقا معه وتقديرا لها, وما باحوا حتي لواحد من أهله أو أهل القرية بما كان بينهم من توافق مع الأب الذي اوصاهم بأن يكونوا خلفته الحلال فلا يقتربوا من الأمانة المودعة في اعناقهم وسوف يسألون عنها يوم الدين.
دارت الأيام وابناء الرجل أوفوا بوعدهم وقسمهم بكتمان السر تماما وكتموه بالفعل, ولأن الأعمار بيد الله والموت ليست له مواعيد فقد كان موتهم بالتتابع وبين الواحد منهم وأخيه اسبوع واحد لايزيد علي اخيه فأدهش ناس الناحية كلها, وكان الناس يضربون كفا بكف لأن الخمس رجال ماتوا في خمسة اسابيع متتابعة, تسربت حكاية موتهم المتتابع وبين الواحد منهم ومن يتلوه اسبوع, والغريب اكثر أن اصغرهم كان في البداية وأكبرهم كان في ختام الأحزان فتندر الناس وصارت حكاياتهم شائعة وقال البعض إنها واحدة من علامات القيامة فكانوا يتبادلونها بألسنتهم همسا ويترحمو علي الأب والأبناء الخمسة في كل المناسبات, ثم جاء اليوم الذي تجمع فيه كبار العائلة وفتحوا الموضوع في ليلة عيد فطر واتفقوا علي أن ينفذوا الوصية وأن تودع محتويات الكنز في دارنا ببراحها وصحنها المفتوح وجدة اجدادنا تقتعد فيها ركنا اختارته بحسب هواها, ولا أدري كيف ولامتي حملوها من مكانها في ظهيرة يوم شتوي امطرت فيه الدنيا ليلتين ونهارين متواصلين, ولأنه لم يكن الأمر محض حماية لها من تلك الأمطار المتواصلة حملوها وأخلوا مكانها قبل أن يحفروا حفرة ليدفنوا فيها كنزهم ثم ردموها وجعلوا أرضها الطينية مستوية, وفرشوها بالحصير والحرام الصوفي ولحاف الغطاء لتنعم بالدفء, وستفوا فوقها مربعا من كتل خشبية غطوه بألواح الخشب ليكتمل فوقها سقف مفتوح يحميها من الأمطار إذا سقطت, وبعد يومين حملوها واعادوها وأجلسوها بمكانها المختار دون أن يبوح أي واحد منهم بشيء عن سبب ابعادها عن المكان, غير أنهم اعادوا ترتيبه علي نحو يريحها ويحميها أكثر لو نزلت الأمطار أو اشتدت حرارة الشمس, ولأنهم اتفقوا فيما بينهم ألا يبوح احدهم أمامها أو امام واحد من أحفادها بشيء عن سرها المخبوء تحت مقعدتها, فقد بدا للبعض منا أن السقف كان لازما لحمايتها وأنهم برعوا في تستيفه فشكرناهم, لكن الأيام دارت ورحل من حملوا الأمانة تباعا في الخمسة أسابيع بالتتابع, وعرفنا بمصادفات متباينة أن الجدة سوف تدفن في ضريح وسوف يبني لها الأحفاد مقاما يبنيه أحفاد أو أحفاد الأحفاد وقت أن يحين الحين وينتهي أجلها حسب المكتوب لها في اللوح المحفوظ والذي لايعلمه غير الخالق العليم بما يختبئ في الصدور, لكنها ظلت في ركنها تتنفس وتعيش وكفت تماما عن الكلام او حتي الهمس لكن عينيها تبرقان وتلمعان في النهار وفي العتمة ويشع منهما ماقلنا أنه نور بصيرة يتركز في نظرات هادية لها ولكل عابر أمامها أو في محيطها فيراها وتراه, كنا نشعر بالونس ونحن في سنوات الصبا الباكر فنتحاكي عنها بزهو لزملائنا في مدارسنا وكتاتيبنا ونثير فيهم الدهشة, وكانت هي دليلا نرجع إليه لحل المسائل الحسابية الصعبة أو تفسير الكلمات فتجاوبنا وتربت علي ظهورنا وترقينا من عيون الحاسدين, فنفرح ونرمح ونشعر بالأمن بغير حدود.
لكن الكبار ظلوا يتفكرون في كيفية الوفاء بالوعد الذي قطعوه بانفسهم علي انفسهم فحفظوه ولم يبح به غير خامسهم وهو آخر من مات فيهم,باح قبل طلوع روحه بعسر لمن حضر من أبنائه وأبناء اخوته, فتاهوا لأنه كان اكثر سخاء وأشد اعتزازا بها فأملي علي الحضور ماكان ومايلزم أن يفعلوه واستجابوا ووعدوه وأقسموا أن يجهزوا لها ضريحا لائقا يتقارب مع اضرحة أولياء الله الكبار والمرضي عنهم, مزينا بتشكيلات تنتسب للفن الإسلامي المصنوعة من كتل النحاس اللامع المطلي بماء الذهب, وبشرط أن تتخلله فراغات تتيح لزائرها أن يقرأ علي روحها فاتحة الكتاب وهو يتأمل ضريحها العالي, فكروا أن يكون الضريح مكسيا بارقي انواع النسيج ولها مقام وقبة مرتفعة بقدر المستطاع لتكون علامة مميزة ولو تمكنوا من كسوتها بأغلي معدن براق متاح لهم ليشع أويعكس ضوء الشمس, ويمكن كل من يراه أن يحسب مراحل البدر في المحاق, والنجم والهلال والقمر قبل أن يكتمل, ثم ينطمس ويختفي قبل أن يبزغ الشعاع الجديد في نفس المكان, مبشرا بميلاد نجم جديد يتلوه انطماس ثم اختفاء قبل أن يبزغ النجم الجديد ثم يصير هلالا نحيلا قبل أن يعاود مشواره ليصبح بدرا أو قمرا مكتملا فيؤكد لنا ولعباد الرحمن أن الدوام للخالق وأن الفناء بعيد وأن دورة الأفلاك التي نرصدها أحيانا في معامل الأرصاد تؤكد لنا أن الحياة تتجدد وأنها قادرة علي أن تجدد حياة الناس من حولها مثل الأمنيات المستحيلة, تتجدد وتخبو ثم تنطمس مثل سراب سرمدي يستحيل رصده أو متابعته أو حتي مساعدته, لكنه يتابع خطواته أو توجهاته, انطماس واختفاء وعدم ثم احياء ووجود متجدد لايفني ولايزول.
والغريب أنها لم ترحل, والأغرب أنها تبدلت واستعادت تقاطيعها الصاحية, وأن بريق العينين توهج اكثر وأنفاسها الخافتة صارت تسمع عن بعد لتؤكد لنا أنها فاتت فترة الصمت, وقالت لنا من غير نطق كلاما محسوسا انتظرناه منها وتمنيناه, وجلبابها الذي كان يتبدل كل صباح علي نحو غامض بثوب جديد زاهي الألوان, ولا ندري متي أو كيف خاطته لنفسها بنفسها في أثناء غفواتنا دون أن ننتبه لها مرة ونراها, أو أن جنا ساكنا تحت الأرض ألبسها إياه واغتسل وجهها, فأزاح عنها آثار النوم المعتاد لتواجه صبحا جديدا, وطرحتها الحريرية الهفافة التي عادت تتراقص وتداري تقاطيعها, نفس التقاطيع القديمة بتفاصيلها وقد تخلصت من التحجر والتصخر الذي لازمها لسنوات في صحوها وتقاطيعها الغاضبة, تبدلت لتكون راضية ومدهشة أو قل انها كانت تبدو مندهشة مما جري لها أيام الكبوة غير المتوقعة, وظللنا نتحسب في خطواتنا لو مررنا امامها لنقدم لها ثمرات البلح الاسمر أو عنقود العنب البناتي أو لقمة العيش وصحنا فيه قطعة من الجبن الابيض أو اللبن الحليب أو صحنا غرفوا فيه ملعقتين من ارز مسلوق بحسب عادتها لتأكل وتواصل الحياة, وكنا نتحسب عندما تمتد أيادينا نحوها لنضع قلة الماء في متناول يدها كل صباح لكي تشرب عندما تشعر بالعطش, تهز رأسها علامة الشكر أوتشيح بها علامة الاعتراض فتتوخي الحذر أكثر ونعلم عيالنا كيف يتعاملون معها لترضي عنهم وعنا, وفي كل صباح نتساءل إن كانت مازالت تتنفس أو أنها أوشكت علي الرحيل لتفسح لنا الحيز البراح المفتوح أمامها والذي هو ميراثها الباقي, لكنها لم تمت ومازالت تتأملنا من موقعها وتباركنا او تغضب منا دونما نطق او بوح بكلمات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.