وزير الإسكان يتفقد سير العمل بالتجمع العمراني غرب الضبعة بالساحل الشمالي الغربي    الإيجار القديم بين العدالة والإنسانية    دلالات زيارة السيسى روسيا    الحكومة السودانية: استشهاد 20 وإصابة 50 مدنيًا بسجن الأبيض    بايرن ميونخ يهزم مونشنجلادباخ ويحتفل بلقب الدوري الألماني    المؤبد وغرامة 500 ألف جنيه لتاجر عقارات بتهمة الإتجار في المخدرات بالعبور    بالزغاريد والرقص مع رامي صبري.. أصالة تشيع البهجة في زفاف نجل شقيقتها | صور    متحدث "فتح" : توزيع المساعدات يجب أن يكون من خلال الأونروا وليس الإدارة الأمريكية    "زراعة الفيوم" تواصل ضبط منظومة الإنتاج الحيواني بالمحافظة    ترتيب هدافي سباق الحذاء الذهبي بعد هدف هاري كين.. موقف محمد صلاح    جوارديولا: لم نتوقع ما فعله ساوثامبتون.. ولذلك شارك هالاند في اللقاء كاملا    وزير الخارجية والهجرة يترأس حوار اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان    السجن المشدد لعاطل لاتهامه بقتل عامل بالإشتراك مع آخرين بسوهاج    جدول امتحانات الصف الثالث الابتدائي التيرم الثاني 2025 في الدقهلية    غادة إبراهيم: بوسي شلبي كانت بتدور على حد يعملها سحر يرجعلها محمود عبد العزيز    في احتفالية يوم الطبيب ال47.. "النقابة بيت الأطباء".. حمدي سعد ل"البوابة نيوز": تكريم اليوم الأهم في مسيرتي    نيابة الخليفة تقرر إحالة عاطل إلى محكمة الجنح بتهمة سرقة مساكن المواطنين    أول رد من رابطة الأندية بعد تأجيل «استئناف اتحاد الكرة» حسم أزمة القمة    محلل سياسى: جولة الغد من مفاوضات إيران والولايات المتحدة حاسمة    طوابير خانقة وأسعار مضاعفة وسط غياب الحلول..أزمة وقود خانقة تضرب مناطق الحوثيين في اليمن    مستقبل وطن المنيا يكرم 100 عامل مؤقت    عطلوا أحكام الدستور.. تأجيل محاكمة 19 متهمًا ب«خلية المرج الثالثة»    تأجيل محاكمة طبيب تسبب في وفاة طبيبة أسنان بسبب خطأ طبي في التجمع    بنك قناة السويس يعزز ريادته فى سوق أدوات الدين ويقود إصدارين ناجحين لصكوك متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية بقيمة 5.8 مليار جنيه    التيسيرات الضريبية... قبلة الحياة للاقتصاد الحر والشركات الناشئة في مصر    يغادر دور العرض قريبًا.. تعرف على الفيلم الأضعف في شباك تذاكر السينما    الكلاسيكو| أنشيلوتي يكشف موقف رودريجو ويؤكد: واثقون من الفوز    نائب رئيس الوزراء: مصر تضع الملف الصحي بجميع ركائزه على رأس أولوياتها    نصائح لوقاية العيون من تأثير ارتفاع درجات الحرارة    مرسوم عليه أعداء مصر ال9.. «كرسي الاحتفالات» لتوت عنخ آمون يستقر بالمتحف الكبير    رئيس جامعة الأزهر: السعي بين الصفا والمروة فريضة راسخة    عالم أزهري: خواطر النفس أثناء الصلاة لا تبطلها.. والنبي تذكّر أمرًا دنيويًا وهو يصلي    "صورة الطفل في الدراما المصرية" ندوة بالمجلس الأعلى للثقافة    القومي للمرأة يشارك في اجتماع المجموعة التوجيهية لمنطقة الشرق الأوسط    رئيس وزراء سلوفاكيا يرفض حظر الاتحاد الأوروبي على واردات الغاز من روسيا    محافظ أسيوط يتفقد تطوير مدخل قرية بنى قرة ونقل موقف السرفيس لتحقيق سيولة مرورية    محافظ الدقهلية يتفقد مستشفى أجا في زيارة مفاجئة ويبدي رضائه عن الأداء    «الإحصاء»: 1.3% معدل التضخم الشهري خلال أبريل 2025    قرار تأديب القضاة بالسير في إجراءات المحاكمة لا يعتبر اتهام أو إحالة    رئيس صحة النواب: مخصصات الصحة في موازنة 2026 الكبرى في تاريخ مصر    انطلاق الملتقى المسرحي لطلاب جامعة كفر الشيخ    وقفة عرفات.. موعد عيد الأضحى المبارك 2025 فلكيًا    خلافات بسبب العمل.. ضبط حلاق بتهمة قتل زميله بالعاشر من رمضان    هل منع الزمالك عواد من التدريبات؟.. مصدر مقرب من اللاعب يؤكد والأبيض ينفي    دعوة شركات عالمية لمشروع تأهيل حدائق تلال الفسطاط    جامعة أسيوط تُشارك في ورشة عمل فرنكوفونية لدعم النشر العلمي باللغة الفرنسية بالإسكندرية    جنايات المنصورة...تأجيل قضية مذبحة المعصرة لجلسة 14 مايو    وكيل وزارة الصحة بالمنوفية يتفقد مستشفى بركة السبع ..صور    أزمة بوسي شلبي وأبناء محمود عبد العزيز.. فيفي عبده: الواحد لازم يصرف فلوسه كلها وميسيبش مليم لمخلوق    السجن المؤبد وغرامة 20 ألف جنيه لمتهمين بخطف عامل بقنا    بينهم سيدة.. الجيش الإسرائيلي يعتقل 8 فلسطينيين بالضفة الغربية    مصر تستضيف الجمعية العمومية للاتحاد العربي للمحاربين القدماء وضحايا الحرب    أمين الفتوى: طواف الوداع سنة.. والحج صحيح دون فدية لمن تركه لعذر    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 10-5-2025 في محافظة قنا    7 شهداء بينهم عائلة كاملة بقصف إسرائيلي على مدينة غزة الفلسطينية    تفاصيل مفاوضات الأهلي مع جارسيا بيمنتا    بكام الفراخ البيضاء؟.. أسعار الدواجن والبيض في أسواق الشرقية السبت 10 مايو 2025    موعد مباراة الاتحاد السكندري ضد غزل المحلة في دوري نايل والقنوات الناقلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدة جدنا الكبير
نشر في الأهرام اليومي يوم 14 - 11 - 2013

تساءلنا بالهمسات والأصوات الخافتة والدهشة ترتسم علي وجوهنا في أركان الدار, كيف تبدلت تقاطيعها بهذه السرعة وقد تمردت علي التجاعيد, كيف ظلت ملامحها ثابتة واضحة طوال عمرها الممدود وغير المحسوب, ولأنها تخطت أعمار كل المعمرين الذين سبقوها كنا نتحدث عنها بكل زهو باعتبارها علامة لسلالتنا,
ولأن الناس الذين كانوا يتحاكون عنها في كل الناحية لم يعرفوا ما صار إليه حالها بلا مقدمات وعلي غير توقع منا, فتحجرت وتداخلت الملامح وما عدنا نملك القدرة علي تحديد الحد بين الخدين والشفتين أو الجبهة التي انطمست رموش عينيها تماما خلال الشهرين الأخيرين, فصرنا نتأسي عليها ونتهامس أو نتساءل عن أسباب هذا التغير المفاجئ الذي لم نتوقعه بأركان الدار وخارجها, نبث في قلوب بعضنا بعض الأمنيات الحالمة أن تنزاح عنها تلك النكبة غير المتوقعة لها وقد كانت مثل التاج علي رءوسنا ثم تحولت الي هم ثقيل عسير علينا احتماله, وبدلا من تدبر ما يلزم تدبيره تمهيدا ليوم رحيلها وطلوع روحها الذي حسبنا حسابه طوال سنوات طالت وامتدت منذ دبرنا كأحفاد لها وصايا أجدادنا, وقد عاشوا وصاروا أجدادا لأجيال تستلم الوصية وتسلمها جيلا لجيل وكلنا يفكر في أفضل سبل حسن وداعها, ويرتب لبناية ضريحها اللائق أو يرفع مقامها ليكون علامة يتباهي بها الأحفاد وأحفاد الأحفاد أجيالا تأتي من بعدهم وينتسبون اليها, علي هذا النحو كنا نفكر وهي ثابتة في بؤر القلوب شعاعا لا يخبو من حكايات تدعونا للزهو بها والتباهي بما أنجزته لأسرتنا في روايات حفظناها ورددناها.
ثم ارتسم المأزق أمامنا سؤالا ساخرا طرحه فلاح شاب, لا يمت لنا أو لها بقرابة, لكنه تجاسر وسألنا عن كيفية تعريتها وتغسيلها؟ لأنها تحولت إلي صخرة ملمومة علي نفسها وفاقدة لملامحها وقد تحجرت تقاطيعها وتداخلت وذابت الحدود وانطمست رموشها وتوارت, فكرنا في كيفية الخروج من المأزق لو ماتت بالفعل قبل أن نداويها ونعيد صورتها القديمة أو بعضها علي الأقل, حتي ولو اكتفينا بأن تتحول المادة الحجرية التي صارت بادية علي تقاطيعها وأطرافها إلي الحد الذي لا يسمح لأي نفر بأن يتعرف عليها, ثم يشك في أن المرحومة انخطفت من وسط الدار او اتقتلت ثم اندفنت وبدلها الجاني بالكتلة الحجرية الساكنة الصامتة فلا يتحرك فيها غير بؤرتي عينيها, وفكرنا وتحاورنا فزادت مواجعنا لأن ما سمعناه من الغرباء بشماتة أوشك أن يدمعنا ونحن ناسها وأهلها بعار التخلي عنها, وكأننا أهملناها ولم نحافظ عليها من وجهة نظرهم, ورغم أن مثل هذا الادعاء البغيض مستنكر من أي عقل يتفكر علي مهل, إلا أنه واجهنا, فتاهت عقولنا ولم تجد جوابا علي السؤال الذي لم يخطر علي بال أي واحد منا في يوم من الأيام.
وصرنا محاصرين بالخوف من رحيلها وهي علي هذا النحو ببدنها وقد تصخر إلي حد يجعل غسلها ودفنها في مثواها الأخير أمام الناس مستحيلا, وكنا نتساءل أحيانا كيف ظلت ملامحها واضحة وثابتة وخلاياها تنبض بالحياة طوال عمرها الممدود ثم تحجرت بشكل مفاجئ فتداخلت ملامحها أو انطمست, كنا نتأسي شفقة عليها في الأركان أو نتباكي علي الفقيدة قبل الوداع, يحبس الواحد منا دموعه إذا فكر في العبور أمامها ليطمئن قلبه عليها أو يقضي مطلبا يلزمه بالمرور بصحن الدار, يرجع من عبر فنسأله ويرد بكلمات تعبر عن الدهشة متمنيا خلاصها بعد أن يصف هاتين العينين الصاحيتين اللتين تشعان وتبرقان وسط التقاطيع التي تداخلت ثم صارت متباعدة مغايرة لتلك الملامح التي ألفناها, لكنها كانت تتنفس بوهن وكأنها تعلن لمن يراها أنها مازالت علي الأرض تحيا, تتنفس وتشغل نفس الحيز الذي اختارته لنفسها وسكنته بإرادتها بوسط الدار البراح, ومربعها الملموم المجاور لدرجات السلم العتيق بتشكيلاته العريقة ثابت وباق يسهل ترميمه لو انكسرت منه طوبة أو انشرخت قطعة من الخشب, لكننا لا نملك القدرة ولا الوسيلة الفاعلة لعلاجها رغم احفادها الذين درسوا الطب بكل فروعه, لكن احدا منهم لم يقدم لنا تفسيرا لحالتها او يفسر الأسباب التي حولتها علي هذا النحو إلي ما صار إليه حالها, نتماسك ونتحامل بكل العسر تأسيا عليها ونرتب احوالنا ليوم وداعها.
تعايشنا إذن برضانا أو غصبا عنا مع الجدة الكبيرة الصاحية التي تقتعد نفس مكانها وتداري رأسها والحيز الذي كان يميز تقاطيعها ملفوف بطرحتها الحريرية, ومكان وجهها وقد صار مسكونا بالتجاعيد الغويطة أو السطحية المتداخلة ولا يسمح للرائي بأن يحدد حيز الفم او الشفتين المتلاحمتين اللتين تداريان فراغ الفم المؤكد من الأسنان, ومرورا بالأنف المتداخل مع الخدين وقد تاهت الأذنان, ومتكورة علي نفسها والصمت المطلق يشككنا بأنها فقدت الحياة لولا هاتان العينان الصاحيتان اللتان تصبان بريقا متوهجا نحو من يتجاسر ويتأمل متشككا في فقدانها للحياة, وبحسب من شاف وباح فإن نظراتها كانت وهجا عاتبا لائما بغضب يخوف المتأمل الراغب في أن يستوثق من حالتها ليحكي لنا ما شافه.
صارت جدة جدنا تتنفس بوهن إذن لكنها تحيا بيننا وتري, ولو عاودت سؤالي عن عمرها فلن اتمكن من تحديده بالتقريب ولا جزافا, لأنها انولدت بشكل مؤكد في زمن لم تكن فيه شهادة الميلاد تكتب ويتم تسجيلها علي الورق في الأيام الأولي لميلاد الوليد أو الوليدة علي النحو الذي إعتدناه او عرفناه وتأكدنا من وجوده بداية من تاريخ ميلاد آبائنا وأجدادنا القدامي, ولأن جدة جدنا الكبير كانت بنت الزمن الآخر بحسب تأكيدات أكابر الاكابر, وكانت جدة جدنا الذي انولدت قبل رحيله بسبع سنوات فباركني وإحتواني ورعاني ونصحهم بفطامي, ولاعبني وداعبني وعلمني نطق الحروف والأرقام وحفظ ما تيسر من اجزاء عم وتبارك وقد سمع بالمصحف الشريف, ثم كتابة الكلمات ورسم الحروف بخطوط النسخ أو الرقعة أو الثلث وبرغم أننا فقدناه وأنا صبي في السابعة من عمري إلا انه باق في الذاكرة, وشهادة ميلادي التي انكتبت وانحسبت بموجبها سنوات عمري وصارت موثقة ومتاحة بالسجل المدني ثم في صندوق المعاشات ومصلحة الجوازات والجنسية وملف خدمتي بوزارة المعارف العمومية وقد طالت وطالت سنوات وسنوات لا أميل لتحديدها لمن يسألني رغم كونها محسوبة في ذاكرتي وذاكرة الكل, ربما تحاشيا للحسد الذي خوفتني منه جدتنا الكبيرة قبل أن تكف عن الكلام ولأنها نصحتني ألا أبوح للغرباء بسنوات عمري, مثلما خوفت أبي وجدي وذكرتهما بما شاع وانعرف من أن البوح المجاني بسنوات العمر جالب للحسد, ولأن أعمارنا كانت في عيون الآخرين تطول عن أعمار السلالات الأخري من أهالي القرية والمركز والمديرية بكل مراكزها كما كان شائعا, فقد صرنا هدفا مرصودا للحسد كما باحت لنا وصدقناها لو حدثتنا أو حاورتنا قبل أن تؤكد أن أعمارها ستطول وتمتد برضا المولي جل في علاه,وربما بمباركاتها الخالصة وبفضل دعواتها الطالعة من قلبها لمولانا الخالق فاتسعت ساحات ارزاقنا لأن الرب راض عنها وعنا, وسيطول أعمارنا اكثر حتي من عمرها المدود, وكنا نفرح وهي تدعو لنا بالستر في الدنيا والآخرة ووفرة الرزق والفلاح والهداية وتحقيق الأمنيات, وأي واحد من سلالتها كان يشعر انه بفضل رضاها عنه سيتمكن من تخطي كل المصاعب بأصالة معدنه وهي العارفة بمعادن الناس, وأن تظل هامته مرفوعة, فنقول لبعضنا البعض إن المولي عز وجل راض عنها كل الرضا فصفحتها بيضاء لأنها لم ترتكب طوال عمرها الممدود ذنبا بقصد, بحسب تأكيدات وشهادات من عاشروها حتي من غرباء الناس, أما عيالها وعيال عيالها وكبار السن منهم يبوحون لنا بأنهم يفكرون في بناية ضريح يليق بها ومقام بركن الزاوية التي بناها علي ارضه البراح في مدخل الدرب احد أجدادنا القدامي الذين رحلوا قبل أن نراه او يراه الآباء او بعض الأجداد, لكنه ودع دنياه قبل أن يتحقق حلمه بأن يقوم بدفنها بنفسه في الضريح الذي دبر تكاليفه بسخاء وكرم واحتفظ بماله في داره لسنوات وسنوات وقبل رحيله عن الدنيا بأيام شعر بأنه ستوافيه المنية فلملم عياله وطلب منهم أن يحفروا حيزا حدده في ارضية القاعة التي يرقد فيها فاستجابوا وحفروا واخرجوا الكنز المدفون فادهشهم وأبهرهم, وربما حسبوها تركة ستئول إليهم كورثة بحسب شرع الله, وعندما طلب منهم عدم البوح بسره او محتوياته وافقوه, لكنه واصل وطلب من كل واحد منهم أن يقسم علي المصحف الشريف أن تكون محتويات الكنز أمانة في اعناقهم جميعا وأن ينفذوا وعده الذي قطعه علي نفسه, أن يبتنوا لها ضريحا ومقاما لا يشبه اي ضريح او مقام في كل الناحية فطاوعوه ووعدوه بحمل الأمانة, وانهم سوف يقومون بعمل المطلوب منهم توافقا معه وتقديرا لها, وما باحوا حتي لواحد من أهله أو أهل القرية بما كان بينهم من توافق مع الأب الذي اوصاهم بأن يكونوا خلفته الحلال فلا يقتربوا من الأمانة المودعة في اعناقهم وسوف يسألون عنها يوم الدين.
دارت الأيام وابناء الرجل أوفوا بوعدهم وقسمهم بكتمان السر تماما وكتموه بالفعل, ولأن الأعمار بيد الله والموت ليست له مواعيد فقد كان موتهم بالتتابع وبين الواحد منهم وأخيه اسبوع واحد لايزيد علي اخيه فأدهش ناس الناحية كلها, وكان الناس يضربون كفا بكف لأن الخمس رجال ماتوا في خمسة اسابيع متتابعة, تسربت حكاية موتهم المتتابع وبين الواحد منهم ومن يتلوه اسبوع, والغريب اكثر أن اصغرهم كان في البداية وأكبرهم كان في ختام الأحزان فتندر الناس وصارت حكاياتهم شائعة وقال البعض إنها واحدة من علامات القيامة فكانوا يتبادلونها بألسنتهم همسا ويترحمو علي الأب والأبناء الخمسة في كل المناسبات, ثم جاء اليوم الذي تجمع فيه كبار العائلة وفتحوا الموضوع في ليلة عيد فطر واتفقوا علي أن ينفذوا الوصية وأن تودع محتويات الكنز في دارنا ببراحها وصحنها المفتوح وجدة اجدادنا تقتعد فيها ركنا اختارته بحسب هواها, ولا أدري كيف ولامتي حملوها من مكانها في ظهيرة يوم شتوي امطرت فيه الدنيا ليلتين ونهارين متواصلين, ولأنه لم يكن الأمر محض حماية لها من تلك الأمطار المتواصلة حملوها وأخلوا مكانها قبل أن يحفروا حفرة ليدفنوا فيها كنزهم ثم ردموها وجعلوا أرضها الطينية مستوية, وفرشوها بالحصير والحرام الصوفي ولحاف الغطاء لتنعم بالدفء, وستفوا فوقها مربعا من كتل خشبية غطوه بألواح الخشب ليكتمل فوقها سقف مفتوح يحميها من الأمطار إذا سقطت, وبعد يومين حملوها واعادوها وأجلسوها بمكانها المختار دون أن يبوح أي واحد منهم بشيء عن سبب ابعادها عن المكان, غير أنهم اعادوا ترتيبه علي نحو يريحها ويحميها أكثر لو نزلت الأمطار أو اشتدت حرارة الشمس, ولأنهم اتفقوا فيما بينهم ألا يبوح احدهم أمامها أو امام واحد من أحفادها بشيء عن سرها المخبوء تحت مقعدتها, فقد بدا للبعض منا أن السقف كان لازما لحمايتها وأنهم برعوا في تستيفه فشكرناهم, لكن الأيام دارت ورحل من حملوا الأمانة تباعا في الخمسة أسابيع بالتتابع, وعرفنا بمصادفات متباينة أن الجدة سوف تدفن في ضريح وسوف يبني لها الأحفاد مقاما يبنيه أحفاد أو أحفاد الأحفاد وقت أن يحين الحين وينتهي أجلها حسب المكتوب لها في اللوح المحفوظ والذي لايعلمه غير الخالق العليم بما يختبئ في الصدور, لكنها ظلت في ركنها تتنفس وتعيش وكفت تماما عن الكلام او حتي الهمس لكن عينيها تبرقان وتلمعان في النهار وفي العتمة ويشع منهما ماقلنا أنه نور بصيرة يتركز في نظرات هادية لها ولكل عابر أمامها أو في محيطها فيراها وتراه, كنا نشعر بالونس ونحن في سنوات الصبا الباكر فنتحاكي عنها بزهو لزملائنا في مدارسنا وكتاتيبنا ونثير فيهم الدهشة, وكانت هي دليلا نرجع إليه لحل المسائل الحسابية الصعبة أو تفسير الكلمات فتجاوبنا وتربت علي ظهورنا وترقينا من عيون الحاسدين, فنفرح ونرمح ونشعر بالأمن بغير حدود.
لكن الكبار ظلوا يتفكرون في كيفية الوفاء بالوعد الذي قطعوه بانفسهم علي انفسهم فحفظوه ولم يبح به غير خامسهم وهو آخر من مات فيهم,باح قبل طلوع روحه بعسر لمن حضر من أبنائه وأبناء اخوته, فتاهوا لأنه كان اكثر سخاء وأشد اعتزازا بها فأملي علي الحضور ماكان ومايلزم أن يفعلوه واستجابوا ووعدوه وأقسموا أن يجهزوا لها ضريحا لائقا يتقارب مع اضرحة أولياء الله الكبار والمرضي عنهم, مزينا بتشكيلات تنتسب للفن الإسلامي المصنوعة من كتل النحاس اللامع المطلي بماء الذهب, وبشرط أن تتخلله فراغات تتيح لزائرها أن يقرأ علي روحها فاتحة الكتاب وهو يتأمل ضريحها العالي, فكروا أن يكون الضريح مكسيا بارقي انواع النسيج ولها مقام وقبة مرتفعة بقدر المستطاع لتكون علامة مميزة ولو تمكنوا من كسوتها بأغلي معدن براق متاح لهم ليشع أويعكس ضوء الشمس, ويمكن كل من يراه أن يحسب مراحل البدر في المحاق, والنجم والهلال والقمر قبل أن يكتمل, ثم ينطمس ويختفي قبل أن يبزغ الشعاع الجديد في نفس المكان, مبشرا بميلاد نجم جديد يتلوه انطماس ثم اختفاء قبل أن يبزغ النجم الجديد ثم يصير هلالا نحيلا قبل أن يعاود مشواره ليصبح بدرا أو قمرا مكتملا فيؤكد لنا ولعباد الرحمن أن الدوام للخالق وأن الفناء بعيد وأن دورة الأفلاك التي نرصدها أحيانا في معامل الأرصاد تؤكد لنا أن الحياة تتجدد وأنها قادرة علي أن تجدد حياة الناس من حولها مثل الأمنيات المستحيلة, تتجدد وتخبو ثم تنطمس مثل سراب سرمدي يستحيل رصده أو متابعته أو حتي مساعدته, لكنه يتابع خطواته أو توجهاته, انطماس واختفاء وعدم ثم احياء ووجود متجدد لايفني ولايزول.
والغريب أنها لم ترحل, والأغرب أنها تبدلت واستعادت تقاطيعها الصاحية, وأن بريق العينين توهج اكثر وأنفاسها الخافتة صارت تسمع عن بعد لتؤكد لنا أنها فاتت فترة الصمت, وقالت لنا من غير نطق كلاما محسوسا انتظرناه منها وتمنيناه, وجلبابها الذي كان يتبدل كل صباح علي نحو غامض بثوب جديد زاهي الألوان, ولا ندري متي أو كيف خاطته لنفسها بنفسها في أثناء غفواتنا دون أن ننتبه لها مرة ونراها, أو أن جنا ساكنا تحت الأرض ألبسها إياه واغتسل وجهها, فأزاح عنها آثار النوم المعتاد لتواجه صبحا جديدا, وطرحتها الحريرية الهفافة التي عادت تتراقص وتداري تقاطيعها, نفس التقاطيع القديمة بتفاصيلها وقد تخلصت من التحجر والتصخر الذي لازمها لسنوات في صحوها وتقاطيعها الغاضبة, تبدلت لتكون راضية ومدهشة أو قل انها كانت تبدو مندهشة مما جري لها أيام الكبوة غير المتوقعة, وظللنا نتحسب في خطواتنا لو مررنا امامها لنقدم لها ثمرات البلح الاسمر أو عنقود العنب البناتي أو لقمة العيش وصحنا فيه قطعة من الجبن الابيض أو اللبن الحليب أو صحنا غرفوا فيه ملعقتين من ارز مسلوق بحسب عادتها لتأكل وتواصل الحياة, وكنا نتحسب عندما تمتد أيادينا نحوها لنضع قلة الماء في متناول يدها كل صباح لكي تشرب عندما تشعر بالعطش, تهز رأسها علامة الشكر أوتشيح بها علامة الاعتراض فتتوخي الحذر أكثر ونعلم عيالنا كيف يتعاملون معها لترضي عنهم وعنا, وفي كل صباح نتساءل إن كانت مازالت تتنفس أو أنها أوشكت علي الرحيل لتفسح لنا الحيز البراح المفتوح أمامها والذي هو ميراثها الباقي, لكنها لم تمت ومازالت تتأملنا من موقعها وتباركنا او تغضب منا دونما نطق او بوح بكلمات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.