لن نكون مبالغين إذا قلنا إن السبب الرئيس لتخلفنا كشعوب تنتمي إلي الحضارة العربية الإسلامية هو غياب التأويل عن واقع الثقافة العربية منذ وفاة ابن رشد وابن عربي فلم تكن نكبة ابن رشد- علي سبيل المثال- سوي نذير بأفول تلك الحضارة التي بدأ يهيمن عليها خطاب ثقافي معاد للتأويل, ومن ثم معاد للإبداع علي كافة أصعدته العلمية والفلسفية والفنية( وهذا ما فصلناه في كتابنا عن: أزمة الإبداع في ثقافتنا المعاصرة). وغياب التأويل يعني إفساح المجال لسيادة' نزعة'دوجماطيقيةdogmatism أي نزعة عقائدية قطعية) في مجال الخطاب الثقافي, سرعان ما ينعكس تأثيرها السلبي علي شتي مناحي الإبداع في حياتنا. ذلك أن غياب التأويل يعني غياب الوعي بضرورة تعدد التفسيرات; إذ لا يمكن لتفسير واحد أن يدعي بلوغ الحقيقة. وغياب التأويل يعني أيضا غياب كل محاولة للتعقل الذي يسعي إلي تفهم موضوعه من خلال مساءلته والتحاور معه, بدلا من البدء بمواقف قطعية مسبقة تسعي إلي تسكين الموضوع في إطار محدد سلفا, وهي المواقف التي تتسم عادة بضيق الأفق. وإذا كان ابن رشد يمثل تيار التأويل في الفلسفة الإسلامية في قمته أو نهايته, فإن ابن عربي كان يمثل غاية التأويل في مجال التصوف, أما المعتزلة فهم رواد التأويل في مجال علم الكلام أو العقيدة الدينية. ولقد كان الدين موضوعا أساسيا للتأويل- وإن كان علي أنحاء شتي- في هذه المجالات الثلاثة. ولا شك أن الدين يشكل أخطر موضوعات التأويل وأهمها; لما للدين من تأثير بعيد في حياة البشر, فهو الذي يحدد موقفهم من الحياة والعالم, بل من العلم والفلسفة( أو الفكر) والفن. أستدرك هنا فأقول: إن الدين هو أخطر موضوعات التأويل وأهمها, علي الأقل في حياتنا كمسلمين, تماما مثلما كان الدين المسيحي في حياة الأوروبيين في العصور الوسطي, حينما كان الدين وصيا علي العلم والفلسفة والفن. موقفنا اليوم إذن شبيه بموقف الأوروبيين في عصور الظلام, وبعيد تماما عن موقف أسلافنا من المعتزلة الذين مهدوا أرضية الثقافة الإسلامية لظهور أفذاذ من قبيل: ابن عربي وابن رشد. والحقيقة أنه لو قدر لهذا التيار المعتزلي أن يدوم في حياتنا الثقافية بروحه التأويلية( وألا يضطر إلي اعتزال معترك الحياة ذاته بحكم الظرف التاريخي والسياسي الذي دعا واصل ابن عطاء إلي القول: نعتزل الفتنة أصلح لنا)- أقول لو قدر هذا لذلك التيار أن يبقي ويسود, لكان للمسلمين شأن آخر اليوم! ولا شك أنه كلما جنح الخطاب الديني نحو التطرف, مال إلي الترغيب والترهيب ونسي ما بينهما, أعني نسي لب الدين نفسه باعتباره خطابا موجها إلي عقولنا وإرادتنا الحرة, ولا يريد منا سوي شخص يؤمن طواعية وعن قناعة بالقيم الروحية التي يطالبنا بها الدين والتي ينبغي أن تنعكس في سلوكنا. ومن صور الترغيب الوعد بالجنة وبحور العين اللاتي يمكن أن ينعم بهن المؤمن في الآخرة. ومن صور الترهيب- في مقابل ذلك- الوعيد بعذاب النار وبعذاب القبر. ولكن عبر ظلام سنوات طويلة حالكة السواد من القهر والعبودية, تغلغل وتسلل تيار ديني عصابي متجهم عبوس كئيب لا يمكن أن يوصف بأنه مجرد خطاب ديني متطرف, وإنما هو تيار تكفيري لكل نظام مدني, وللناس أجمعين ما لم يؤمنون بمعتقداته, باعتباره السلطة الوحيدة البديلة عن أي نظام. والواقع أن هذا التيار يختلف عن التيار سالف الذكر الذي يقوم علي الترغيب والترهيب الديني, وإن انبثق منه: فتيار الترغيب والترهيب قد وظفته السلطة دائما ودعمته لإلهاء الناس عن النظر في حياتهم وأوضاعهم الاجتماعية, ولينصرفوا إلي التفكير في آخرتهم, بدلا من التفكير في دنياهم: إنه تيار هروبي من الحياة يفرغ الدين من محتواه. أما التيار التكفيري, فقد نشأ من خلال قمع السلطة لمن حاولوا مقاومتها أو منافستها باسم الدين, فظلوا مختبئين لفترات طويلة, يعلنون عن حضور خافت من حين لآخر. ولكن ما إن توارت السلطة القمعية بعد الثورة وتجلت حالة الانفلات الأمني, حتي خرج هؤلاء من جحورهم التي تشبه كهف أفلاطون, حيث مكثوا فيها طويلا لا يرون سوي هلاوسهم وضلالاتهم ولهذا فإننا في هذا المقال التأسيسي, سوف نركز علي' تأويل الخطاب الديني' من الناحية النظرية وليس من الناحيةالعملية, وأقصد بالناحية النظرية تأصيل التصورات المتعلقة بمفهوم' تأويل الخطاب الديني', وأقصد بالناحية العملية تقديم الأمثلة التطبيقية التي تجسد افتقارنا إلي ذلك المفهوم في تصورنا للدين الذي ينعكس في مسلك حياتنا اليومية. وبطبيعة الحال, فإن السؤال الأساسي هنا هو: ما المقصود أولا بالخطاب الديني الذي من المفترض أن نخضعه للتأويل؟! الخطاب ببساطة هو أسلوب في طرح النص أو الكلام, بهدف تبليغ رسالة للمتلقي. وعلي هذا, فإن النص القرآني- علي سبيل المثال- هو خطاب ديني من حيث أنه مشحون برؤية معينة للعالم والحياة يريد تبليغها للمتلقي, ولكن النص القرآني يظل بمثابة خطاب ديني أول يخضع للتأويل من خلال نص آخر أو نص بشري ثان يحاول فهمه وتفسيره. ولكن المشكلة في واقعنا الثقافي تنشأ من أن هذا النص الثاني( في أغلب أشكاله) يبدو مجافيا للنص الأصلي ومغتربا عنه, حتي إنه ليبدو كما لو كان خطابا دينيا ثانيا لا علاقة له بالخطاب الأصلي. ولا يعني هذا- بطبيعة الحال- أننا نطالب أن يأتي الخطاب الثاني الذي يهدف إلي تأويل الخطاب الأول, كما لو كان مجرد تكرار أو إعادة لأطروحات الخطاب الأول, وإنما يعني أنه خطاب وإن اختلفت تفسيراته وتعددت- يجب أن يلتزم بشروط ومحددات الخطاب الأصلي, ويخضع لسلطته... سلطة النص التي تطالبنا بألا نفرض عليه مواقفنا الذاتية أو نحاول اختزاله في تفسير واحد( بينما هو حمال أوجه): فالنص( أي نص, بما في ذلك النص الديني) يطالبنا دائما بأن نتحاور معه بهدف الكشف عن شيء من معناه وروحه في كل تفسير نسعي إليه, وهذا هو معني أخلاقيات التأويل التي تحدث عنها الفيلسوف الكبير جادامر. الخطاب الديني الثاني السائد في واقعنا الثقافي لا شأن له بالخطاب الأول, فهو يجافي روحه; ببساطة لأنه لا يهدف إلي تأويله, أي فهمه وتفسيره, وإنما يهدف إلي تأطيره, أي وضعه داخل الإطار الخاص بالمفسر( وينبغي لكل ذي فطنة أن يفهم أن كلمة' المفسر' هنا لا تعني بالضرورة الفرد الواحد الذي يفسر; فقد يقوم بالتفسير أفراد كثر, ولكنهم في النهاية يقدمون لنا تفسيرا واحدا يمثل تيارا سلطويا). وبوجه عام يمكن القول إن الخطاب الديني السائد الآن في واقعنا الثقافي يتبدي في صورتين: والصورة الأولي هي صورة الدين الذي تستخدمه السلطة لتدافع عن شرعية وجودها وقراراتها باسم الله من خلال أولي الأمر الذين ينبغي طاعتهم مصداقا لقوله تعالي' وأطيعوا الله, وأطيعوا الرسول, وأولي الأمر منكم'. أما الصورة الثانية فهي صورة الدين الذي يريد أن يستخدم السلطة, أي الذي يريد أن يجعل من الدين سلطة,' فالإسلام دين ودولة, ولا حاكمية إلا لله'! ولكننا نري أن هذين الموقفين متعارضين ظاهريا; لأن كلا منهما لا يعنيه روح الدين أو حقيقته, وإنما يعنيه السلطة: فهو بالتأكيد لا يعنيه سلطة النص بمعني الانصياع إلي ما يقوله النص( علي النحو الذي أسلفنا بيانه), وإنما يعنيه توظيف الدين ليصبح في خدمة السلطة, سواء كانت هي السلطة الراهنة أو السلطة التي يريد البعض اعتلاءها باسم الدين. وليس الدين بهذا ولا بذاك: فالدين هنا ينظر إليه من خلال علاقته بالسلطة التي تكمن خارجه, سواء كانت السلطة الراهنة أو السلطة التي تريد أن تكون. نعم ليس الدين بهذا ولا بذاك; لأن الدين له سلطته الكائنة في قوته الروحية المتمثلة في كونه دافعا للحياة, ولإعمار الأرض, ومن ثم للإبداع علي كافة مستوياته: فالدين طاقة روحية تتمثل في الإيمان بقيم الخير والإبداع والجمال, ولكن الخطاب الديني السائد في واقعنا الثقافي ليس له علاقة بشيء من هذا; لأنه خطاب معاد للفلسفة( ممثلة في الفكر والتعقل), ومعاد للفن( لأن الفن في نظره رجس من عمل الشيطان), بل معاد للعلم نفسه( لأنه ينزع عنه استقلاليته ويعتبره متضمنا في الدين). وتلك هي الأمور الجوهرية التي ينبغي أن نناقشها كما تتمثل في واقعنا الثقافي كبرهان عملي علي ما نقوله عن هذا الواقع. ولكن إيضاح ذلك يتطلب وقفات تأملية لمزيد من مقالات د. سعيد توفيق