تتمتع منطقة قناة السويس بموقع استثنائي فريد لا نظير له في ملتقي قارات وأسواق وخطوط التجارة والمواصلات والاتصالات العالمية, لكن مصر لم تستغله كما ينبغي لأنه يقع في منطقة عمليات عسكرية ظلت ملتهبة حتي عقد التسوية السياسية منذ ما يقرب من35 عاما. أما بعد عقد التسوية بشروطها الجائرة علي حقوق مصر, والتي تجعل الغالبية الساحقة من سيناء منزوعة السلاح, فقد أصبحت تنمية المنطقة اقتصاديا أمرا ممكنا مع مراعاة طبيعتها الاستراتيجية. وقد فتح مشروع قانون تنمية إقليم قناة السويس الذي أعده نظام الرئيس المعزول د. محمد مرسي والذي كان بمثابة مشروع لبناء إمارة للرئيس له سلطات مطلقة فيها, ولمصادرة المستقبل وفصل إقليم القناة عن مصر, والعبث بالطبيعة العسكرية للمنطقة, وإدخال الأجانب للهيمنة علي هذا الإقليم, والنزع الفعلي للسيادة المصرية عليه بمنع تطبيق أي قوانين لاحقة عليه.. فتح ذلك المشروع, الباب مجددا أمام مناقشة قضية تنمية إقليم القناة علي أسس وطنية حقيقية. والحقيقة أن حصر التفكير في تنمية هذا الإقليم الاستراتيجي في إطار ما تعود عليه نظام مبارك ونظام مرسي من اللهاث وراء الاستثمارات العربية والأجنبية بصورة بليدة, لا يلائم مطلقا أي تخطيط وطني لتنمية هذه المنطقة الاستراتيجية. ويمكن تمويل تنمية إقليم القناة من خلال إنشاء شركة مصرية قابضة خاصة, يتم تمويلها عبر اكتتاب عام مشروط بوجود حد أقصي للملكية لأي شخص أو شركة, ويتم تداول أسهمها بين المصريين فقط, علي أن يديرها مديرون تنفيذيون وتراقبها الدولة وأجهزتها الرقابية لضمان حقوق حملة الأسهم وحمايتهم. كما يمكن الاتفاق مع البنوك العامة والخاصة لتساهم في تمويل المشروعات للقطاع الخاص الصغير والتعاوني والكبير في تلك المنطقة بشروط مقبولة. كما أن الدولة يمكن أن تقوم بصورة مباشرة بتمويل وبناء المشروعات الضرورية لتنمية إقليم قناة السويس, سواء احتفظت بها الدولة, أو باعتها بدون فساد تحت رقابة صارمة, للمصريين فقط من خلال البورصة, مع وضع سقف لنسبة الملكية في أسهم الشركات لا يزيد علي5,0% من قيمة رأسمال الشركة. وربما يكون الأهم من قضية تنمية إقليم قناة السويس وتمويل المشروعات التي تتطلبها هذه التنمية, هو أن القناة ومكانتها العالمية مهددة بالفعل, إذا لم تقم مصر بتطوير تعاملها مع القناة وتطوير قدرتها علي خدمة حركة النقل العالمية كميا وكيفيا وسعريا. ويأتي التهديد من مصدرين أحدهما صهيوني والآخر روسي. ويتمثل التهديد الصهيوني للقناة في خطط ربط ميناء إيلات الصهيوني القائم علي مدينة أم الرشراش المصرية المحتلة علي رأس خليج العقبة, بميناء أشدود علي البحر المتوسط. والمسار الأول المقترح لقناة الربط من إيلات إلي البحر الميت, ثم من هذا الأخير إلي البحر المتوسط, ينطوي علي تعقيدات فنية وتكلفة باهظة, نظرا للفوارق الكبيرة بين مناسيب المياه, بما يجعل انتقال السفن يتطلب أهوسة للإنزال وأخري للرفع, ويجعل تكلفة ورسوم مرور السفن مرتفعة ولا يمكنها أن تنافس قناة السويس, كما أنه يخلق موانع مائية تقسم فلسطينالمحتلة طولا وعرضا وهو أمر غير مقبول عسكريا في الكيان الصهيوني. أما المسار الثاني فيتمثل في حفر قناة من إيلات لأشدود مباشرة, وإمكانية تحقيقه أعلي, لكن تكلفته الهائلة والتي سيتم تحميلها علي رسوم المرور, تجعل مثل هذه القناة غير قادرة علي منافسة قناة السويس. كما أن إسرائيل لا تحتمل عسكريا, أن تشكل مثل هذه القناة حاجزا مائيا يفصل قطاع غزة وجزءا من صحراء النقب عن باقي فلسطينالمحتلة. كما أن مثل هذا المشروع يعد خطا أحمر بالنسبة لمصر لأنه يضر بمصالحها الحيوية. وإذا تجاوزت إسرائيل كل الصعوبات وقررت تجاوز هذا الخط الأحمر, فإنه لن يكون أمام مصر, سوي استعادة السيطرة الوطنية علي مضايق تيران, وفرض رسوم تعادل رسوم المرور في قناة السويس, علي مرور السفن الداخلة لميناء إيلات أو الخارجة منه, والتي تحمل تجارة محولة وليست تجارة مباشرة للكيان الصهيوني, مع طرح قضية أم الرشراش علي المجتمع الدولي والأمم المتحدة. أما المسار الأخطر فعلا فهو القناة البرية بين إيلات وأشدود والتي تقوم علي استقبال ميناء إيلات السفن القادمة من آسيا وشرق وجنوب إفريقيا, وإنزال الحاويات منها, ونقلها بريا( سكك حديدية أو سيارات النقل الثقيل) إلي ميناء أشدود ليعاد تحميلها علي سفن أخري تنقلها لمقصدها النهائي. والعكس بالنسبة للتجارة القادمة لميناء أشدود ومتجهة إلي آسيا وشرق وجنوب إفريقيا. وهذه القناة البرية تعمل في الوقت الراهن في صمت وبمستويات محدودة, لكن أي تطوير لوسائل النقل بين ميناءي إيلات وأشدود وتحديدا السكك الحديدية, يمكن أن يسبب أزمة لقناة السويس, ولا سبيل لمواجهته إلا بتطوير القناة وخدماتها وقدرتها التنافسية, واستعادة السيطرة الوطنية علي مضايق تيران وفرض رسوم علي السفن التي تعبرها حاملة بضائع متجهة في النهاية إلي دول أخري غير الكيان الصهيوني. أما التهديد الروسي فيتمثل في خطط ربط شرق آسيا بأوروبا, بخط للسكك الحديدية عبر الأراضي الروسية, ليتم من خلاله نقل التجارة السلعية بين الطرفين. لكن هذا التوجه تعترضه عقبات جدية, فتجارة كوريا الجنوبية مع أوروبا, ستمر في هذه الحالة عبر كوريا الشمالية التي ستكون في وضع متحكم في حركة هذه التجارة, وهو أمر يستحيل علي كوريا الجنوبية قبوله, فضلا عن إضراره بصناعة السفن الكورية. كما أن الجزء الأكبر من الصادرات الصينية يخرج من موانئ بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي. ومن الأسهل لها أن تتوجه مباشرة لطريقها المعتاد عبر قناة السويس. وهناك عقبة أخري هي مرور خط السكك الحديدية في مناطق شديدة البرودة طوال الشتاء الروسي الرهيب بما يرفع تكاليف إبقائها تعمل بكفاءة طوال العام. أما العائق الكبير الآخر, فهو صعوبة وضع الدول الأوروبية تجارتها الخارجية مع شرق آسيا الذي يتحول تدريجيا إلي القلب الاقتصادي للعالم, تحت رحمة روسيا. ورغم كل ما أوردناه آنفا بشأن التهديدين الصهيوني والروسي لقناة السويس, إلا أن مصر ينبغي أن تطور قناة السويس وقناة برية موازية لها إلي الغرب منها, وأن تجعل قدرتها التنافسية مانعة لنشوء وتطور أي طرق بديلة لها من خلال العديد من مشروعات التطوير والتنمية التي عرضنا لها في المقال الذي نشر الأسبوع الماضي, والذي كان من المفروض أصلا أن يتبع هذا المقال. لمزيد من مقالات أحمد السيد النجار