في عام1989 م نشر المفكر المغربي الدكتور سالم يفوت مقالة في مجلة الفكر العربي اللبنانية, بعنوان( أسباب تعثر الخطاب الفلسفي العربي المعاصر), وجاءت هذه المقالة ضمن ملف العدد الذي تناول موضوع( الخطاب الفلسفي العربي.. ماذا يبقي من القديم وتعثر الحديث والمعاصر). في هذه المقالة شرح الدكتور سالم يفوت رؤيته لأسباب التعثر الذي أصاب الخطاب الفلسفي العربي المعاصر, وهي الرؤية التي ظل يلفت النظر إليها, ويعيد الحديث عنها مرات عدة, في دلالة علي تمسكه بها, حيث تطرق لها كاملة في مقالة أخري نشرها سنة1998 م في مجلة الفكر العربي المعاصر, بعنوان( النظام الفلسفي الجديد), وهي المقالة التي ضمها لاحقا في كتابه( المناحي الجديدة للفكر الفلسفي المعاصر), الصادر في بيروت سنة1999 م. وقد اتخذ الدكتور يفوت من مفهوم التراكم مفهوما تفسيريا استند عليه في نقد وتحليل وبناء هذه الرؤية, وبالتركيز علي نمطين من التراكم, النمط الأول أطلق عليه تسمية التراكم المعاق, وأطلق علي النمط الثاني تسمية التراكم المستأنف. والقاعدة الكلية التي ينطلق منها الدكتور يفوت ويعطيها صفة الجزم, هي إن التراكم هو شرط التطور, لأن التراكم في نظره يخلق تقليدا يعتبر وجوده ضروريا لظهور روح فلسفي. وما يؤكد جزم الدكتور يفوت بهذه القاعدة, أنه أشار إليها وكررها أكثر من مرة, مرة في مقالة أسباب التعثر, ومرة ثانية في مقالة النظام الفلسفي الجديد, وتحدث عنها بلغة جازمة بقوله( ونعتقد جازمين أن التراكم في الفلسفة شرط التطور). وعلي ضوء هذه القاعدة, وانطلاقا منها يري الدكتور يفوت أن ما حدث في المجال العربي هو أن التراكم الذي كان المعول عليه في خلق مناخ فلسفي عربي حقيقي لم يحقق أهدافه, لا لقصور ذاتي فيه, وإنما لعوائق خارجية منعته من أن يستمر لينجز مهامه المتمثلة في تأسيس أرضية صالحة للنظر والتأمل الفلسفي, وتهيئة تربة ينبت عليها النقد. والشاهد التاريخي الذي توقف عنده يفوت, هو ما ظهر من مفارقات في المجال العربي ما بين النصف الأول من القرن العشرين, وما بين النصف الثاني منه, ففي النصف الأول عرف المشرق العربي في مصر وسوريا ولبنان نهضة فلسفية, تميزت بهيمنة الانشغال بالفلسفة كفلسفة, وتمثلت في التآليف والمختصرات والمطولات والترجمات, سواء في تاريخ الفلسفة بمعناه العام, أو في التأريخ لبعض قضايا الفلسفة, أو الانتصار لبعض المذاهب الفلسفية. الوضع الذي تغير في نظر يفوت, في النصف الثاني من القرن العشرين نتيجة ما حصل من أحداث وتحولات سياسية, ومن اشتداد الغليان القومي والأيديولوجي عرضت ذلك التراكم لنوع من الإعاقة. وهنا يصل يفوت إلي نمط التراكم المعاق, الذي يحمله مسؤولية الأزمة التي وصل إليها الفكر الفلسفي العربي المعاصر, وحسب رأيه أن المسؤول عن هذا التراكم المعاق هو الفكر القومي الذي ظهر ليكون بديلا للثقافة المعاصرة, أو لينصب علي الأصح نفسه بديلا لها, ومثلما أزاحت الدولة القومية الصراع والاختلاف علي صعيد المجتمع لتستبدل به وحدة مزعومة وموهومة هي وحدة القوم, فإنها علي صعيد الفكر والثقافة أزاحت التراكم والاختلاف لتستبدل به ثقافة قومية واحدة مزعومة. ويضيف يفوت أن الفكر القومي ينطوي في ذاته علي تناقضات جدية تتخذ شكل عوائق أو كوابح لمنعه من أن يكون تربة جيدة تنشأ عليها تجارب ثقافية منفتحة ومتنوعة, وأنه يحمل في ذاته عوامل إفلاسه وانحطاطه. والخروج من هذا المأزق في نظر يفوت, هو في استئناف التراكم أو التراكم المستأنف, والذي لا سبيل له إلا باستيعاب الدرس الفلسفي المعاصر, والعودة علي تاريخ الفلسفة بمعناه الأكاديمي, وقضايا الفلسفة العامة بمعناها الكلاسيكي, وقراءة كل ذلك في ضوء التحولات المنهجية المعاصرة. هذه الرؤية من الدكتور يفوت أجزم أنها جاءت علي خلفية قراءة الفلسفة وتاريخ الفلسفة من داخل الفكر الغربي المحض, الذي يمثل عند يفوت البداية والنهاية, ومعجزة الحل, وفيه حصلت اللحظات التاريخية الكبري حسب وصفه في مقالته( النظام الفلسفي الجديد), وانبثقت منه الفتوحات والنهضات والاكتشافات. والذي يراجع كتابات يفوت يري أن الأسماء الغربية هي التي تتردد وتتواتر, وهكذا نصوصهم ومذاهبهم ومقالاتهم, والسؤال الذي يعنيه بشكل أساسي ويطرحه بصورة واضحة وصريحة ويمثل عنده مفتاح الحل هو: هل استوعبت الفلسفة العربية المعاصرة الدرس الفلسفي الغربي وتمثلته؟ هذا السؤال طرحه الدكتور يفوت سنة1987 م, في ورقته التي شارك بها في المؤتمر الفلسفي العربي الثاني, وجاءت بعنوان( الفلسفة والفكر العلمي), وقد ظل هذا السؤال يتردد في الكتابات التالية للدكتور يفوت لاعتقاده أنه يمثل مفتاح الحل. ليس هذا فحسب, بل إن الدكتور يفوت يقطع الطريق علي البحث عن بديل فلسفي آخر, وحسب اعتقاده أن أخطر وهم ما زال يعاني منه الفكر الفلسفي العربي, هو وهم العثور علي موقف فلسفي بديل لأن فيه تجاهلا لكون الفلسفة استراتيجية. وأمام هذا الموقف لا نستطيع أن نقول إلا أنه يتسم بتبعية شديدة للفكر الغربي, هذه التبعية لا يمكن أن تكون مفتاح الحل, ويمكن لهذا الموقف أن يتغير كليا عند الدكتور يفوت لو أنه خرج عن تبعية الفكر الغربي! لمزيد من مقالات د. زكى الميلاد