عندما نتناول العلاقة بين التعليم وتأكيد الهوية الثقافية لابد في البداية من تحديد ملامح تلك الهوية الثقافية والتي لا يمكن اختزالها في مادة في الدستور تقول:' مصر جمهورية دينها الإسلام ولغتها الرسمية العربية' فمادة كتلك تنطبق مثلا علي اليمن والجزائر وتونس وغيرها , وكما لايمكن اختزال الهوية في نص مجرد, لايمكن اختزالها كذلك في صورة فوتوغرافية ثابته والحقيقة ان للهوية الثقافية المصرية منذ أقدم العصور ثوابت ليست نصوصية ولكن قيم إجرائية يأتي علي رأسها الإيمان بالمساواة بين البشر جميعا, فتحتفظ لنا النقوش الفرعونية بصورة المرأة في كامل زينتها تجلس بجوار زوجها النبيل, او تساعد زوجها الفلاح في حقله, لم تناقش في الثقافة المصرية ما إذا كانت المرأة بروح او بدون روح, ولم يتخذ النبلاء في مصر من العبيد أهدافا لتعلم الرماية كما كان يفعل فرسان الرومان علي أساس ان العبيد ليسوا من البشر, ولما تتساءل الثقافة المصرية كما تساءلت الثقافة الهندية عن أي من البشر خلقهم الله من رأسه وأيهم من زراعيه وايهم من قدميه0 كما تميزت الثقافة المصرية باحترام قيمة الوطن بحدوده الحالية منذ أقدم العصور وسنجد في وصايا الحكام الفراعنة:' ليس من صلبي من لم يحافظ علي أرض أجداده وعلي حدود بلاده' وتحترم الثقافة المصرية التاريخ وتراث الاجداد, وتقاليدهم وسنجد أن غالبية المعابد المصرية حتي الاحدث منها قد تم تشييده علي اطلال معابد تعود الي فجر التاريخ ولم تكن ثورة الناس علي اخناتون الا لانه سعي الي القطيعة مع العبادات القديمة كلها, ورغم ذلك الاحترام للتاريخ فالثقافة المصرية تستجيب للمتغيرات وتأخذ بالجديد في كل ميدان فقد اخذ اجدادنا الفراعنة الأسلحة الحديدية والعجلات الحربية من الغزاة الهكسوس واقتبسوا الساقية والطنبور والنورج من الرومان, ودلف المصريون المحدثون الي العصر الحديث بسلاسة تعرف قيمة المصلحة وتقدرها وتعرف حكم التطور وحكمته, واعجب هنا للذين يرفضون كل ما يأت من الغرب لمجرد انه من هناك, فعندما اراد الخديو اسماعيل ان يجعل مصر قطعة من اوربا واقتبس اول مجلس لشوري النواب سنة1866, وكان مجلسا بلا صلاحيات تقريبا, بعدها بخمسة عشر عاما فقط سنة1881, كان احمد عرابي واقفا امام الخديو توفيق مطالبا بأن يكون لنا مجلسا للنواب له كل صلاحيات المجالس النيابية في اوربا, والي جانب ذلك فلم تعرف الثقافة المصرية مجرد' قبول الآخر' المختلف ثقافيا أو دينيا او عرقيا, بل احترمت ذلك الاخر طالما لم يكن نشاذا في مجري ونهر الثقافة المصرية ولقد ادركت في طفولتي في الباجور منوفية الكثير من' الخواجات' الاجانب: يونانيين ومالطيين وطليان, يعملون في مختلف المهن وانواع التجارة0 وتتميز ثقافتنا الوطنية بمراعاة الذوق والاصول والبعد عن الخشونة والعنف, وغالبا ما لا تتجاوز معارك الفلاحين والناس في الاحياء الشعبية حدود الزعيق والصوت العالي وسرعان ما يتدخل اولاد الحلال وما اكثرهم لوضع حدود لتلك المعارك, ولم تعرف معاركنا الدم الا مع التكفير والاستبداد وعلي الرغم من أن حديثنا عن ملامح الثقافة المصرية يمكن أن يطول كثيرا الا اننا سنختتم تلك الملامح بتقدير الثقافة المصرية للجمال والفنون, فقد عرفت الشعب المصري علي طول تاريخه كل الوان الفنون القولية والموسيقية والتشكيلية التي انحدرت من زمن اجدادنا القدماء شديد الثراء, فهناك المواويل بانواعها والوانها وهناك الموسيقي بمختلف آلاتها: كآلات النفخ والالات الوترية وآلات الايقاع, وقلما يوجد مصريا او مصرية لا يغني أولا يطربه الصوت الجميل0 هذه هي بعض ملامح الهوية الثقافية المصرية, فهل يساعد تعليمنا الحالي علي الحفاظ عليها؟ وانا ازعم انه علي العكس من ذلك فالتعليم المصري يسير عكس تلك الملامح تماما, فنسق التعليم فقير لا يشجع تميز ولا يكافئ ابداع ولا يحض علي تفرد وانما يسعي الي تنميط التلاميذ وصبهم في قوالب جامدة, تختزلهم جميعا في درجة واحدة توضع في شهادة تقيس ماحفظه التلميذ لا ما يفهمه او يعرفه او يتحمس له, واصبحت العملية التعليمية كلها تقوم علي الحفظ والتلقين والاملاء دونما اعتبار لرغبات الطلاب او مواهبهم او قدراتهم, وأصبحت النظم والسياسات التعليمية تخضع لمقتضيات ومتطلبات واملاءات السلطات السياسية الحاكمة لا حاجات المجتمع ولا طبيعة ثقافته وتراثه وتاريخه وأصبح التعليم في ظل غياب مشروع وطني حقيقي وهيمنة اتجاهات دينية متطرفة وتفاوت طبقي ضاري, محورا لصراعات لا نهاية لها بين الأغنياء والفقراء وبين الاقباط والمسلمين وبين أصحاب التوجهات الدينية المحافظة والتوجهات الليبرالية الحديثة0 وفي ظل فقر التمويل والتنافس الضاري للحصول علي درجات الامتحانات المجردة والصماء, اختفت من مدارسنا حصص وانشطة الفنون والهوايات, مسرح وسينما وموسيقي وغناء ونحت وتصوير وزخرفة, وغيرها من الفنون التي حفظت لثقافتنا روحها واستمراريتها0 ويضيق المقام بالطبع عن وضع تصور واف للمصالحة بين التعليم وهوية الثقافة المصرية, ويكفي هنا أن نشير الي منطلق تلك المصالحة ونحن نضع دستورنا بعد الثورة اذ ينبغي وضع مادة في ذلك الدستور هذا نصها:' مؤسسات التعليم مؤسسات وطنية تعزز التماسك والانتماء الوطني, ويحظر فيها الدعوة للمذاهب السياسية والدينية', وهنا سوف يسع التعليم للتخلص من هيمنة النظام السياسي والايديولوجي كما سينفتح الافق امامه للتخلص من التطرف الديني وعندها سيخلص التعليم لوظيفتيه الاساسيتين الاولي السعي نحو المستقبل والحفاظ علي تراثنا الثقافي ويبعث بذلك المعني الرمزي لتمثال نهضة مصر لمحمود مختار والذي يشير فيه الي الثقافة بتمثال ابو الهول الناهض والمستقبل بتلك الفلاحة المصرية التي ترفع عن عينيها غطاء عصور التخلف وتنظر بثقة وثبات الي المستقبل H باحث بالمركز القومي للبحوث التربوية لمزيد من مقالات د كمال مغيث