ما سر هذا الصراع الضاري بين بعض الهيئات القضائية, وحرب التصريحات الساخنة بين بعض قياداتها إزاء توزيع القوة والسلطات فيما بين بعضهم بعضا, في المناقشات الجارية داخل لجنة الخمسين التي تضع تعديلات دستور2012 المعطل! كنا منذ عقد الثمانينيات من أوائل المطالبين بقوة كتابة وبحثا- عن استقلال السلطة والجماعة القضائية, من خلال تبني المعايير والقواعد المعروفة في النظم الدستورية والقضائية المعاصرة التي تحدد استقلال القضاء والقضاة. كان أيضا بعض شيوخ القضاة من ذوي الحكمة, والمعرفة والتخصص والرصانة وراء هذه المطالبات التي لم يكن النظام التسلطي يأبه بها, وكانت ردود السادات ومبارك, محض خطاب بلاغي حول بداهات الدور التاريخي والتأسيسي للقضاء والقضاة في تحقيق العدالة, والمساهمة في الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي, ودورهم البارز في حماية الحقوق والحريات. خطاب سلطوي عقيم, رمي إلي تجاوز مطالب وضغوط نادي القضاة, وبعض الكتاب والمفكرين الذين اهتموا بإصلاح الأوضاع المختلة في توازنات القوة والصلاحيات وتوزيعها في ظل دساتير الدولة التسلطية, ونظامها الشمولي المستمر منذ تأسيسه بعد ثورة يوليو.1952 من آثار التسلطية السياسية والدستورية والقانونية كما عرفتها السلطة الحاكمة, أنها كانت تنظر للقوانين بوصفها إحدي أدواتها في تحقيق الهيمنة علي كافة الفعاليات والديناميات الاجتماعية, والاقتصادية, والمبادرات الفردية أو الجماعية التي قد يطرحها بعض الأشخاص, والجماعات لتنشيط المجتمع المدني المعتقل في إطار مجموعة من القيود والضوابط التي أدت إلي قمع المبادرات الطوعية, والأفكار البناءة التي تبث الحيوية في النظام الاجتماعي, أو في إطار المجموعات المهنية, أو الدينية أو المذهبية. هذه النظرة والإدراك السياسي- ذو الجذور الأمنية والعسكريتارية للطبقة السياسية المسيطرة- أدت إلي الانحراف السلطوي بالتشريع- وفق اصطلاح العميد السنهوري- بكل مترتبات ذلك الخطيرة علي الحقوق والحريات العامة والخاصة, والأخطر علي توازن المصالح بين القوي الاجتماعية المتنازعة. تحول بعض أو غالب المنظومات التشريعية إلي محض أدوات بيد السلطة التنفيذية وبالأحري مؤسسات القوة الرئيسية فيها, وعند القمة رئيس الجمهورية, وبعض مراكز القوة حوله, يمارسونها وفق مصالحهم وأهدافهم وإراداتهم. من هنا يمكن تفسير النشأة التاريخية لمفهوم الهيئات القضائية كجزء من هندسة توزيع القوة والصلاحيات في بعض دساتير الجمهورية- دستور1971 وتعديلاته-, وذلك لكي يرأس مجلسها رئيس الجمهورية, حتي يكون ظله وسلطاته فوق جميع السلطات في ظل خلل جسيم في توزيع الاختصاصات فيما بينها, ترتيبا علي ذلك كانت قوانين السلطة القضائية المتعاقبة وتعديلاتها تعطي لرئيس الجمهورية, ووزير العدل اختصاصات واسعة في الشئون القضائية التنظيمية والمالية والرقابية... الخ. نحن إزاء مواريث تاريخية وسياسية تتصل بطبيعة التسلطية السياسية في بلادنا, وتقاليدها وأنماط سلوكها والقيم السياسية السلبية التي ارتبطت بها عضويا, وبالثقافة السياسية الطغيانية التي شكلت ولا تزال أحد أبرز مقومات التطور الديمقراطي الإصلاحي, أو الثوري الذي رمت إليه الطبقة الوسطي- الوسطي, عندما خرجت في25 يناير2011 لتطالب بإسقاط النظام, وتطوير الدولة والسلطة من خلال تحقيق قيم الحرية والكرامة, والعدالة الاجتماعية... الخ. أن حالة الاضطراب السياسي, والغموض وغياب اليقين, والممارسات السياسية اللا مسئولة, وغياب الرؤي السياسية الكلية والقطاعية الرصينة, وضعف الحكومات المتعاقبة وتشكيلاتها المتنافرة, ساهم في عدم الاستقرار السياسي, وبعض الفجوات الأمنية, دفع بعض القوي السياسية الإسلامية إلي تحويل الأطر الدستورية للمراحل الانتقالية إلي معارك سياسية ضارية حول الهوية والشريعة لخلق حالة من الاستقطاب والانقسام السياسي والديني والمذهبي والعرقي في تركيبة وتكوين الأمة المصرية الواحدة, والأسس الحداثية وبعض والتقليدية- التي ترتكز عليها, وتطورت من خلالها في إطار الدولة الحديثة. ليس الإخوان والسلفيون فقط من هم وراء سياسة الانقسامات في تكوين الدولة والأمة الحديثة, وإنما أيضا عدم الانسجام والتجانس البنيوي في بناء الدولة التي تعرضت للانكشاف والتعري الهيكلي كنتاج للصراع بين السلطات, والبيروقراطية حول النفوذ والمنافع والقوة, بل والفساد في داخل الأجهزة الإدارية, والتي كانت موضعا للنقد والشكوي المستمرة من الفساد الهيكلي والإداري, والضمائر المثقوبة, وتحول قانون الدولة إلي أداة بيد هذه المجموعات تتلاعب به, وتفسره وتعطله في التطبيق من خلال عدم تنفيذ الأحكام القضائية, علي نحو يؤثر واقعيا استقلال السلطة القضائية. مظاهر انحراف في الوظيفة العامة عديدة وتراكمت عبر عديد القرون في ظل تمدد سلطات البيروقراطية التي رمت إلي توسيع نفوذها ومنافعها عبر النظام القانوني الرسمي للدولة, وعبر قوانين القوة والفساد كما سبق أن أسميناها! الأخطر أن الصراع علي الدولة وصلاحياتها امتدت إلي سعي كل جماعة مهنية أو بيروقراطية إلي الحصول علي ضمانات وصلاحيات استثنائية لكي تكون لها سطوة, وأصبحت بعض المهن تصارع من أجل الحصول علي الضبطية القضائية! لحماية أعمالها! ثمة صراع علي القوة والمغانم بين أجهزة الدولة, من هنا يمكن تفسير الصراع بين مجلس الدولة والنيابة الإدارية, وكذلك هيئة قضايا الدولة علي انتزاع بعض الاختصاصات القضائية للمجلس وإسنادها للنيابة الإدارية! ولا أحد يعرف ما الذي يدور داخل لجنة الخمسين والأثر السلبي لتركيبها الداخلي ومعايير اختيارها المهنية والفئوية والدينية والمذهبية والعرقية في أدائها لأعمالها؟!, وأدي هذا التكوين الخاطئ للجنة إلي هذه النزعة الصراعية علي الدولة من خلال الصراع علي التعديلات الدستورية! ما هذا الخلط بين طبيعة الدساتير وهندساتها, وبين القوانين واللوائح التي تنظم التفصيلات القاعدية الموضوعية والإجرائية والضمانات؟ خارطة الطريق, وتشكيل اللجنة المختل أدي إلي تحويل الدستور إلي ساحة صراع ديني وفئوي ومهني ومناطقي ومذهبي, وعرقي علي القيم الدستورية الرئيسة التي يتمتع بها جميع المواطنين وفق المنطق المؤسس لها, وهو المساواة والمواطنة وحقوقها والحرية الدينية وعدم التمييز. الجميع يريد أن يفرض مهنته أو دينه, أو عرقه, وحقوقهم أو مشكلته ضمن نصوص الدستور. ما هذا التدهور والتخلف في الفكر والسلوك السياسي الذي نراه؟ لماذا الإصرار علي مجلس للشيوخ, لماذا هدر الوقت والأموال في دولة معسورة؟ هل يريد بعضهم أن يصلوا إلي عضوية هذا المقهي السياسي التشريعي بالتعيين كمكافأة علي مشاركتهم وتمريرهم للتعديلات الدستورية الانتقالية؟ هل يريد بعضهم مكافأة سياسية لنهاية الخدمة كرئيس معين لمجلس الشيوخ في تمرير هذه الوثيقة المضطربة في بعض نصوصها؟ هل القوة الفعلية التي تقف وراء السلطة الانتقالية تريد مكافأة بعض أعضاء الخمسين علي دعمهم لها؟! ما الذي يجري في بلادنا من اضطراب وفوضي وفقدان للقدرة علي إدارة السلطة الانتقالية والحكم؟ لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح