في بداية حياتنا الصحفية قالوا لنا وليتهم ما قالوا إن الكلب إذا عض إنسانا فهذا ليس خبرا, بل الخبر الذي يستحق النشر هو أن الإنسان عض كلبا! هل سمعتم عمركم عن إنسان يعض كلبا؟ إن ذلك إن حدث ولن يحدث فسيكون بالتأكيد انقلابا في سنن الحياة, وفي نواميس الكون, وسيكون حتما استثناء الاستثناء, فكيف أؤسس لصحافة محترمة تهمل القاعدة, وتقوم علي الاستثناء؟ وللأسف, فإن المتابع لصحافتنا الميمونة, عبر تاريخها المديد, سيلحظ أن صحافة عض الكلب هذه احتلت مساحة معتبرة من هذا التاريخ, فكانت النتيجة أوخم من مجرد فقدان الثقة في الصحف, وامتدت إلي فقدان الثقة في كل شيء. إن الأصل في الصحفي الحقيقي الأمين المحترم, أن له رسالة سامية, هي تنوير العقل, وكشف الحقيقة الغائبة, وتوعية جمهوره, وتعليمه وتثقيفه, فإن نسي الصحفي رسالته تلك, تحول والعياذ بالله إلي معول هدم لمجتمعه, وأداة تخريب لمدركات قارئيه. وفي كار الصحافة, يطلق الصحفيون علي الموضوعية ونزاهة التناول وأمانة العرض لفظ المهنية, وهو لفظ مشتق من كلمة مهنة, فكأنما مهنة الصحافة والنزاهة أصبحتا شيئا واحدا, فكيف يكون الصحفي نزيها وهو شاغل نفسه آناء الليل وأطراف النهار بالبحث عن إنسان عض كلبا؟ والحق, أن المسألة عندنا تجاوزت قصة الكلب والإنسان والعضة, لتمتد إلي كل أوجه الحياة, حتي أصبحنا نبحث في صحافتنا عن كل ما هو غريب ومثير وشاذ, وكأن الخبر لا يكون خبرا إلا إذا كان شاذا ومثيرا, وهكذا أصبحت عضة الكلب عضة للعقل, وللضمير, وللوعي. وما الضرر المترتب علي هذا التغييب للوعي, الذي يرقي أحيانا إلي مرتبة التدليس والغش؟ إنك وأنت تدلس علي قارئك إن كنت صحفيا, أو علي مشاهديك إن كنت إعلاميا فأنت تمارس ضده جريمة ثلاثية التدمير: أنت, أولا, تشيع بين الناس ثقافة الكذب, وما أبأسها من ثقافة, إنك كالحاوي المتمرس في موالد الغلابة تلعب علي قرائك لعبة فين السنيورة, فتخفي جانبا من الحقيقة لتظهر قطعة معلومات واحدة منقوصة, تبني فوقها بنيانا من الأكاذيب, وطبعا سيكون دافعك إلي ذلك رغبتك في التخديم علي رجل الأعمال الذي تعمل لحسابه, أو علي جماعتك التي تنتمي إليها, أو إلي المسئول الكبير الذي يحميك ويكيل لك المكاسب! وللعلم فإنه إذا انتشر الكذب بين قوم فبشرهم ببداية الخروج من التاريخ, وكم من أمم قبلنا غادرت التاريخ, وإن شئتم فاقرأوا كتب التاريخ. ثم إنك ثانيا وأنت تمارس التدليس علي قرائك تشيع بينهم ثقافة الخداع, والمخاتلة, والغش. إن للناس من حولك أعينا تري الواقع الأليم, فإذا قرأوك واكتشفوا أنك تزيف الواقع, فسيعتقدون أن هذا التزييف هو الأصل, وسيحذون حذوك, لتكون النتيجة أن نصبح جميعا غشاشين: التجار غشاشون, والتلاميذ غشاشون, والمدرسون والأطباء, ورجال السياسة, وسائقو التاكسي والتوك توك( ألسنا جميعا الآن غشاشين بسببك أنت أيها المثقف؟). .. ثم إنك ثالثا أيها المدلس في نقل الحقيقة تشيع بين الناس ثقافة الخضوع والخنوع, فينتشر الاستبداد والفاشية( بكل أنواعها) فيفعل بنا حكامنا الأفاعيل دون رادع, لماذا؟ لأن سيادتك لم تعلم الناس كيفية النظر للحقائق باعتبارها حقائق, بل قلت لهم إن الإنسان هو الذي يعض الكلب دائما, مع أن الكلاب هي التي تنهش فينا صباح مساء, وعندئذ تصبح غاية الغايات لنا جميعا, أن نتحول إلي كلاب, لنحمي أنفسنا من العض( شفت عملت في الناس إيه؟). ياعم.. لماذا تقول لنا نحن قراءك هذا الكلام.. ما تروح تقوله لزملائك! هنا بيت القصيد, وسر اللعبة, إن صحافة عض الكلب( وإعلام قلب الحقائق) ما كانا لينجحا وينتشرا ما لم يكن لهذه السلعة المضروبة, مشتر, وأنتم أنتم المشترون. إن ثمة ما يشبه الاتفاق المخفي بين الكاتب وقارئيه علي لعبة اكذب.. اكذب.. فأنت تعرف أنني أعرف أنك كذاب, وأنت أيضا تعرف أنني سأصدقك!. .. حلاوة هذه اللعبة تتمثل في أن القارئ استمرأ الكسل العقلي, وعدم الفرز والتمحيص, فكانت النتيجة طرد السلعة الصحفية الجيدة من السوق لتحل محلها السلعة المغشوشة, فإن كنتم قد أدمنتم الغش والتدليس والأكاذيب, فاستمروا في التهامها هنيئا مريئا, أما إن كنتم قد سئمتم, وفاض بكم منها الكيل, فتعالوا معا نعدل الميزان المقلوب, ولن نصدق بعد اليوم أي حاو يخبرنا بأن الإنسان هو الذي يعض الكلب. هيا نبحث عن صحافة جديدة تقول الحقيقة, دون إثارة, أو تدليس, أو مبالغة, وتعتمد علي المستندات والوثائق والمصادر المعلومة لا المجهلة. دعونا نغادر بسلام فرقة العضاضين ونقرأ من الآن فصاعدا صحافة نظيفة نقية, تضيء العقل, وترفع درجة الوعي. وتغسل الوجدان, فإن وجدتم عضاضا يحاول إقناعكم بأن الإنسان هو الذي يعض الكلب, فاصرخوا في وجهه هو الكلب, ابن الكلب, والكلب جده, ولا خير في كلب, تناسل من كلب! لمزيد من مقالات سمير الشحات