هل خطر ببالك يوما وأنت تجري مكالمة هاتفية أو ترسل رسالة بالفاكس أو عبر الإنترنت أن هناك أجهزة علي بعد آلاف الكيلومترات تلتقط كلماتك وتسجلها؟ وأن هناك جيوشا من آلاف الموظفين تنتظر هذه الكلمات علي مدار الساعة لتحلل وتقرر؟ قد يقول المرء: وما قيمة كلماتي حتي ينشغل بها الآخرون؟ وقد يظن البعض أنه أصبح الرجل المهم الذي تتبعه أجهزة التنصت الدولية, والأمر بالتأكيد ليس كذلك, ولكن يبدو أن الولاياتالمتحدةالأمريكية قررت أن تقوم بدور الأخ الأكبر الذي يتنصت علي العالم أجمع وحجتها القديمة بالطبع مكافحة الإرهاب وحماية الأمن القومي من خطر مجهول. وبعد مرور ما يقرب من41 عاما علي أكبر فضيحة سياسية هزت المجتمع الأمريكي والمعروفة باسم ووترجيت, كررت الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة أوباما نفس الفضيحة في خطوة أصبحت تهدد مستقبل العلاقات الأمريكية مع عدد كبير من حلفائها الأوربيين بعدما كشفت صحيفة لوموند الفرنسية عن تسجيل واشنطن70 مليون مكالمة هاتفية لفرنسيين بجانب التجسس علي مكالمات35 من زعماء العالم من بينهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيسة البرازيل ديلما روسيف, كما كشفت وثائق سنودون أيضا عن تنصت أمريكا في السابق علي الأميرة ديانا ومحمد علي كلاي ومارتن لوثر كينج. وإذا كان نشر وسائل الإعلام أخبارا عن تجسس الولاياتالمتحدة علي حلفائها الأوروبيين قد أثار موجة احتجاجات من جانب الاتحاد الأوروبي خاصة ألمانياوفرنسا وإيطاليا وإسبانيا, فإن الكثير من الملاحظين وحتي صحف أوروبية اعتبرته باردا ولا يتناسب مع حجم الفعل الأمريكي, مصادر رصد أوروبية لمحت أنه لا يمكن أن تكون ألمانيا التي يعتبر التجسس الحكومي فيها مسألة حساسة جدا بكل قدراتها العلمية المتفوقة علي كل شركائها لم تعرف أن الأجهزة الأمريكية تتجسس علي هاتف مستشارتها ميركل, وإذا كان هذا قد حدث فعلا فإن هذا أمر خطير ومؤشر تراجع للقاطرة التي تقود الاتحاد الأوروبي. وتعتبر ان اس ايه أو وكالة الأمن القومي أذن أمريكا الكبري التي تستخدمها في مجال التجسس, فهي واحدة من16 وكالة تجسس أمريكية والتي تعمل علي الصعيد العالمي, أما قائمة الأهداف الاستراتيجية لها تشمل قيادة الدول والاستقرار الأمني والحالة الاقتصادية والقدرات العسكرية والحملات الانتخابية وحقوق الإنسان بالإضافة إلي البرامج النووية واحتياطيات البترول. النشاط التجسسي لهذه الوكالة تضمه100 مليون وثيقة كل عام و40 طنا من الوثائق يتم التخلص منها كل يوم, وحسب الموسوعة الحرة( ويكيبيديا) فإن عدد العاملين في هذا الجهاز كان عام1975 مائة وعشرين ألفا, أما الآن فلا أحد يعرف عددهم, وإن كان من المؤكد أن العدد قد تضاعف ربما أكثر من مرة, أما عن الميزانية التي تخصصها الولاياتالمتحدةالأمريكية لهذه الوكالة التي تم إنشاؤها عام1952 فهي تقارب ال80% من الميزانية الكلية المخصصة لمختلف أنشطة الدولة الاستخباراتية والتي تقدر ب27 مليار دولار. ولكي نعرف كيف تقوم الولاياتالمتحدة بعملية التنصت لابد أن نستعرض بعضا من الأجهزة التي تعتمد عليها وكالة الأمن القومي, فهناك مثلا ميكرفون الليزر وبواسطته يتم توجيه أشعة ليزر إلي نافذة من نوافذ الغرفة المراد التجسس عليها وعندما ترتد هذه الأشعة تحمل معها الذبذبات التي تتحول إلي أصوات المتحدثين في الغرفة. أما جهاز(TX) فهو يتيح الدخول إلي خط الهاتف من بعيد دون أن يشعر أحد بذلك, كما يستطيع هذا الجهاز تحويل الهاتف الموجود في الغرفة إلي جهاز إرسال ينقل جميع المكالمات والأحاديث. وهناك أيضا الحشرة الالكترونية التي دخلت عالم الجاسوسية والمخابرات بقوتها ودقتها المتناهية وأثبتت نجاحا كبيرا في الحصول علي المعلومات المطلوبة ونقلها بسرعة مذهلة. وقد يتساءل القارئ: كيف يمكن مراجعة ودراسة وتقييم ملايين المحادثات والاتصالات الجارية كل يوم في العالم؟ وأين الكادر الذي يستطيع القيام بهذا؟ التكنولوجيا المعاصرة حلت هذا الأمر, وذلك بوضع قاموس للكلمات التي يجب مراقبتها, فمثلا إن كان المطلوب مراقبة الحركات الإسلامية, فهناك معجم خاص من الكلمات التي يجب مراقبتها مثلا: الإسلام, قرآن, جهاد, وكذلك أسماء رجال الحركات الإسلامية وزعمائها مثلا: الغزالي, حسن البنا, الإخوان المسلمون, فهناك عقول إلكترونية ضخمة تقوم بفرز المكالمات التي ترد فيها هذه الكلمات وتسجلها ثم تسلمها إلي الكادر الفني المتخصص الذي يضم عشرات الآلاف من الفنيين. ومع اتساع فضيحة التجسس وسقوطها ككرة ثلج متدحرجة تعتزم دول مجموعة البريكس وهو مختصر للحروف الأولي باللغة اللاتتينية المكونة لأسماء الدول صاحبة أسرع نمو اقتصادي بالعالم وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا, إنشاء وصلات جديدة للإنترنت تتفادي المرور بأراضي الولاياتالمتحدة, وذلك لمكافحة التجسس الأمريكي علي حكومات ومواطني تلك الدول, كذلك تسعي الحكومة الألمانية بقيادة ميركل إلي توصل دول الاتحاد الأوروبي إلي اتفاق بعدم التجسس, مماثل لاتفاق تحاول فرنساوألمانيا إبرامه مع الولاياتالمتحدة, ناهيك عن تحركات ألمانيا والبرازيل في المنظمة الدولية, وهما تعدان مشروع قرار بالجمعية العامة للأمم المتحدة سيطالب بوضع نهاية لعمليات التجسس المكثفة وانتهاك الحياة الشخصية. فهل حقا يؤمن جميع هؤلاء بأن قانونا ما أو فضيحة من هذا النوع أو حتي مكالمات هاتفية للرئيس أوباما مع ميركل وهولاند سيجعل أجهزة الاستخبارات الأمريكية تغير من طريقة عملها؟ إذا كان الأمر كذلك فلنبارك للولايات المتحدة علي نجاحها في خداع القارة العجوز مرة أخري.