يمكن القول بصفة عامة إن الميل إلي العنف المجتمعي يكون مصاحبا للشعور العميق بالأزمة علي المستويين الفردي والجماعي, وربما تكون هذه هي الحال في مجتمعنا المصري الآن. ونقدم مساهمة في فهم الظاهرة, بالتركيز علي بعض جذور العنف السياسي والمسلح في الفترة الأخيرة والذي يبادر إليه خليط غير متجانس المنابع, وفي مقدمتها عناصر متشددة تنتمي لتيار الإسلام السياسي, ثم عناصر إجرامية محترفة, وكذا عناصر مجهولة المصدر مما اصطلح علي تسميته الطرف الثالث. ونتناول في هذا المجال موضوعين: أولهما يتعلق بما نسميه تشريح ظاهرة العنف المسلح, ونقصد بذلك ما يلي: 1- جغرافيا العنف, متمثلة بصفة أساسية في( هلال العنف) الممتد من شمال سيناء إلي القاهرة عبر مدن القناة الثلاث ثم محافظة الشرقية وصولا إلي تخوم القاهرة, بالاعتماد أساسا علي المخزون المهرب لترسانة الأسلحة الليبية عبر الصحراء الغربية فالساحل الشمالي, وعلي الرصيد البشري الذي يغذيه تدفق عناصر( إسلامية) متشددة قادمة إما من خارج الحدود أحيانا, أو من بين المفرج عنهم من السجون في الفترات الأخيرة, أو من القابعين في مغارات وكهوف سيناء خلال الأعوام الماضية. 2- ديموغرافيا العنف, متمثلة في محورية دور الفئة الشابة, وخاصة المتعلمة, في سياق ممارسة العنف والعنف المضاد; إذ الملاحظ أن شباب تيار الإسلام السياسي عامة, وشباب جماعة الإخوان المسلمين خاصة, هم أكثر من قدم المساهمة البدنية والذهنية في السياق العنفي, وبالتالي فهم أول من يرفض المهادنة الآن, قبل أشياخ الجماعة وأنصارها. 3- أيديولوجيا العنف, ونشير هنا إلي الميل الأساسي للتيار( الإسلامي) إلي إسناد الموقف السياسي إلي المقدس الديني, دون إعطاء الاعتبار اللازم لمقتضيات الممارسة المجتمعية, مما يرفع من منسوب الاستعداد للتضحية و(الفداء) لدي شاب التيار, من خلال تفسير مغلوط للنص, وفهم مبتور للواقع. أما الموضوع الثاني فيتعلق بما يمكن أن نطلق عليه الاقتصاد السياسي للعنف, وهو ما نركز عليه في هذا المقال. وفي ضوء تشريح الظاهرة علي النحو السابق, يمكن القول إن الجذور الحقيقية للعنف تتمثل في البيئة الاقتصادية الاجتماعية الحاضنة, وذلك في المناطق التي يحتدم فيها العنف والعنف المضاد, وتتمثل حاليا في شمال سيناء, ومنطقة القناة, وأطراف القاهرة. ويدور المحور الرئيسي لهذه المناطق حول سيناء بشكل عام. لقد تم إهمال تنمية شبه جزيرة سيناء طوال العقود الأربعة الأخيرة, وتم فرض حالة من التهميش الوجودي, إذا صح هذا التعبير, وكذا التهميش الاقتصادي- الاجتماعي شبه الكامل, عبر الزمن, وخاصة في منطقة شمال سيناء, ذات الإمكانات الواعدة مائيا وزراعيا ومنجميا, وذلك منذ نهاية حرب أكتوبر1973, ثم صرف النظر عن مشروع تنمية سيناء الذي كان قد أعد في أواخر التسعينيات من القرن المنصرم. ويتصل بذلك, إهمال تنمية منطقة قناة السويس, وخاصة مدينة بورسعيد, وتذبذب المعاملة المتعلقة بالمنطقة الحرة في هذه البلدة المجاهدة و ترك أهليها دون مصدر مأمون للرزق خلال سنوات طوال, وكذا الإغفال المتكرر لضرورات تطوير الحياة بمدينتي السويس والإسماعيلية وفي محافظة الشرقية. يضاف إلي كل ذلك نوع من الفراغ الجغرافي الديموغرافي لمناطق الاتصال بين مدن القناة و القاهرة, رغم تشييد ما يسمي( المدن الجديدة): العاشر من رمضان, الشروق, القاهرة الجديدة...إلخ. ويدعونا كل هذا إلي تأكيد الأهمية البالغة لتنمية سيناء في المحل الأول, بالخروج من حيز النشاط السياحي في مدن الجنوب( طابا ورأس سدر والطور وشرم الشيخ) إلي التنمية المتكاملة المستدامة في الشمال وكذا في الجنوب الغربي, اعتمادا علي مد ترعة السلام من النيل, ومخزون المياه الجوفية المتوافر من الأمطار الغزيرة, وإعادة توجيه مسار السيول, باعتبار هذه التنمية النواة النووية لمشروع مصر( القومي) كما ينبغي له أن يكون. ويجب أن يكون هدف هذا المشروع أن تتحول شبه جزيرة سيناء إلي منطقة تجمع زراعي وصناعي وسياحي محوري لمصر الجديدة كلها, بما في ذلك مناطق النشاط الأثيرة لجماعات العنف المسلح, مثل( جبل الحلال) في الشمال, بما يتوافر فيه من موارد معدنية ونباتية نادرة, وأن ينقل إلي المعمور المتوقع شطر رئيسي من الساكنة المصرية علي ضفاف الوادي, بمقدار مليونين أو ثلاثة ملايين نسمة خلال العشرين سنة القادمة. ونشير هنا إلي ضرورة تحويل سيناء إلي ورشة إنتاج سلعي وخدمي ذات طابع عالمي, انطلاقا من صلة الوصل مع العالم, من خلال( مشروع الميناء المحوري وبناء منظومة أنماط النقل المتعددة) في بورسعيد الكبري و(مشروع منطقة شمال غرب خليج السويس) اتصالا مع نقطة انطلاق خط( سوميد) لنقل البترول إلي ميناء الإسكندرية. وإننا لندعو بهذه المناسبة إلي تحويل الاهتمام الاقتصادي للدولة المصرية شرق البلاد, من مشروع تنمية إقليم قناة السويس إلي مشروع تنمية سيناء كمجتمع سكني إعماري بالمعايير العالمية, بحيث يتفرع منه عدد من مشاريع التطوير والتنمية لمدن القناة الثلاث ومناطق الاتصال مع القاهرة الكبري. ويجب أن يتم ذلك بالتلازم مع مشروع( توشكي) الكبير وما يتصل به من جنوب الوادي والصحراء الغربية وخاصة في منخفض القطارة والواحات, خاصة واحة الفرافرة, ومنطقة مطروح, بالإضافة إلي النظر في مشروع( ممر التنمية) المقترح من فاروق الباز, ومشروع غرب النوبارية, وشرق العوينات, واستزراع( ما تبقي من الساحل الشمالي) بعد إزالة الألغام المتخلفة من الحرب العالمية الثانية كل ذلك بهدف تغيير وجه مصر السكاني والتنموي بصورة تامة خلال نصف القرن القادم, إنفاذا للشعار الأثير:( الخروج من الوادي الضيق, وتعمير الصحراء). بذلك يمكن لنا التعامل المجدي حقا مع الجذور الاقتصادية والاجتماعية للعنف المسلح, بما يمثله من خطر ماحق علي كيان الدولة الوطنية في مصر العربية. لمزيد من مقالات د.محمد عبد الشفيع عيسى