منع غياب الوثائق الرسمية لكثير من الأحداث المهمة في تاريخ مصر الحديث, وعلي رأسها وثائق حربي1967 و1973, مصر من إنتاج معرفة تاريخية حقيقية عن تاريخنا المعاصر فحتي الآن لا توجد تواريخ مصرية رصينة عن تاريخنا الحديث, كما يري المؤرخ, خالد فهمي, رئيس قسم التاريخ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة, لكن فهمي لا يعزو المشكلة كلها إلي غياب الوثائق ولكن أيضا لغياب إقبال المؤرخين المصريين علي كتابة تاريخ الحقبة إذ لايزالون يعتبرون أنها لا تنتمي للتاريخ بعد. ويقول فهمي مؤلف كل رجال الباشا, إن أغلب المؤرخين المصريين يعتبرون أن حرب1973 تنتمي لحقل السياسة وأن مدة40 عاما ليست كافية بعد لدخولها كتب التاريخ, وتسمح بتناولها من زاوية نظر تشمل جميع جوانبها, وذلك برغم أن المدارس التاريخية الغربية والأجنبية تعتبر أن مدة30 سنة أو أقل مدة كافية للغاية لدخول حدث ما كتب التاريخ, بل إن الاتحاد السوفيتي دخل كتب التاريخ كحدث تاريخي. لكن المدرسة الأكاديمية التاريخية المصرية لاتزال عند قواعدها العتيقة, وهو ما تسبب في انحصار الكتابات التاريخية عن حرب أكتوبر إما في مذكرات أناس أحياء ممن عاصروا الحرب أو شاركوا فيها أو عبر التناول الصحفي, لكن فهمي لم يعد يري أن الوضع بعد40 عاما أصبح ملائما لذلك النوع من التناول علي الإطلاق, فهذا التناول يظل مجتزأ يعتمد علي وثيقة من هنا أو هناك, ولكن هذا ليس عملا مؤرخا, فالمؤرخ يقرأ الوثيقة في سياقها الأوسع ويقارنها بما سبقها وما لحقها ويعمل ضمن مجموعة ضخمة من المادة الوثائقية ولا يعتمد علي وثيقة منفردة كما تفعل الصحافة أو كتب المذكرات. ويعاني حقل الدراسات التاريخية المعاصرة بمصر من مشكلة حقيقية, تكمن في غياب أغلب وثائق الجهات السيادية الخاصة بالنصف الثاني من القرن العشرين, ومن أبرز تلك الوثائق وثائق حرب1973 والتي لاتزال تحتفظ وزارة الدفاع ومؤسسة الرئاسة بها ولم تسلمها إلي دار الوثائق تمهيدا للإفراج عنها طبقا للقوانين والقواعد المنصوص عليها. وأفرجت دار الوثائق القومية, منذ أيام عن أول وثائق غير حربية متعلقة بحرب أكتوبر تتعلق بإعداد الدولة للحرب, صدرت في كتاب بعنوان مصر في قلب المعركة, لكن الكتاب لا يضم أي وثيقة تتعلق بالعمليات الحربية الخاصة بحرب أكتوبر أو محاضر اجتماعات كبار قادة الجيش واجتماعات رئيس الأركان ووزير الدفاع مع الرئيس أنور السادات. وتناضل الدار والكثير من المؤرخين المهتمين للإفراج عن تلك الوثائق التي كان يجب أن تتسلمها دار الوثائق في أكتوبر من عام1988 بحسب القانون. ويلجأ المؤرخون المصريون والأجانب ممن لديهم اهتمام بحرب أكتوبر إلي الأرشيفات الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية والروسية مؤخرا للتأريخ لحرب أكتوبر والتي تحوي محاضر اجتماعات كبار قادة الأمن القومي ورؤساء تلك الدول التي كانت منخرطة في الحرب بشكل أو بآخر وهو ما يتيح مادة غنية عن الحرب, لكنها مادة تروي وجهة نظر تلك الدول وحكوماتها, بينما الرواية المصرية غائبة. ويشكل غياب الرواية المصرية خطورة علي كتابة تاريخ الحرب من وجهة نظر وثائق إسرائيلية أو أمريكية, لكن فهمي يشير إلي نوع آخر من الخطر وهو الوقع النفسي السيئ علي قارئ التاريخ الذي يقرأ تاريخ حرب أكتوبر, التي تعتبرها مصر أكبر نصر عسكري لها في تاريخها الحديث عبر وثائق ومصادر أجنبية لا يوجد بها مصدر مصري واحد, ويزعم فهمي أن هذا الأمر يترك علي الشباب أثرا سيئا, يجعله يشعر بأننا حتي غير قادرين علي سرد رواية تلك اللحظة المبهرة في تاريخنا من وجهة نظرنا وبمصادرنا ووثائقنا. تشفي الوثائق والصور الآتية من الخارج, كالتي أفرجت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مؤخرا عنها غليل الكثيرين من القراء لكنها تترك ترسبات نفسية سيئة. يحلو لفهمي الذي تخصص في تاريخ جيش محمد علي وبناء الدولة الحديثة, وقدم قراءة مغايرة للسردية السائدة حول تأسيس ذلك الجيش عقد المقارنات بين المصادر التي يملكها لكتابة تاريخ حروب جيش محمد علي, حتي في أحلك لحظاته وانسحاب الجيش مهزوما من الشام, وبين المصادر والوثائق التي يملكها لكتابة تاريخ حرب1967 أو حرب1973 وهي مصادر تكاد تكون معدومة. من المثير للعجب والمفارقة أن هناك مصادر كافية لكتاب حروب محمد علي, ومواجهته مع السلطان العثماني, عبر وثائق تضم مراسلات إبراهيم باشا قائد الجيش مع أبيه محمد علي وتقارير في غاية الأهمية والدقة عن مقابلاتهما مع ممثلي القوي العالمية, وتضم أدق التفاصيل, ويمكن عبرها رسم صورة واضحة للحرب يوما بيوم, وتوجد أعداد وفيرة من تلك المراسلات محفوظة ومفهرسة, برغم أنها تعود لوقت كان جيش محمد علي مهزوما لكنه استطاع العودة والانسحاب بشكل منظم ومعه كل أوراقه ووثائقه التي تم حفظها في القلعة بعد عودة الجيش, وهو ما يري فيه فهمي أمرا مبهرا إلي أقصي حد. فالأرشيف المصري هو الأكثر غني من بين أرشيفات العالم حول تلك الأزمة التي كانت أزمة عالمية بحق, تورطت فيها كل القوي الكبري. يري فهمي أن الجيوش المعتزة بنفسها يكون لديها ما تفخر به حتي ولو كانت تنسحب بعد هزيمة. يريد فهمي الإفراج عن تلك الوثائق لمعرفة حقيقة النزاعات التي تذكرها كتب المذكرات وعلي رأسها ما قاله الرئيس السادات عن خلافه مع رئيس أركانه الراحل سعد الدين الشاذلي, وأيضا حقيقة ما قاله الشاذلي في مذكراته عن خلافه مع السادات وقت الحرب. لا تكفي شهادة أي منهما لإثبات تاريخ لكن السجلات الرسمية وكشوف الحضور يمكنها أن تفعل. أهمية إطلاق تلك الوثائق والملفات هي تأريخ وتوثيق النصر العسكري والاستخباراتي المبهر في أكتوبر1973 من واقع سجلات الحرب واجتماعات كبار القادة ويحسم الخلافات حول التاريخ. خلافات لم يعد محلها دائرة الصحافة والمذكرات ولكن كتب التاريخ التي لا يزال مؤرخونا يعتقدون أن حروب مصر الحديثة لم يفت عليها وقت كاف لدخوله.