يبدو تزاحم هذه الكتابات وكأنه محاولة لتعويض غياب الوثائق الرسمية الخاصة بتلك الحرب، والاكتفاء بتقديم الأوبريت تلو الآخر، ومن ناحية أخري محاولة لاحتلال موقع المؤرخ من يكتب تاريخ الحروب المصرية؟ ومن يؤرخ لثورتها؟ أسئلة تبدو بديهية في اللحظة الحاضرة في ظل غياب الوثائق .. لنكتفي فقط بمذكرات القادة السابقين.. التي انهمرت مؤخرا في بعض الجرائد ودور النشر..في ظاهرة يصفها البعض ب "حرب المذكرات". بالتأكيد ليست هذه المذكرات مرجعا رئيسيا لكتابة التاريخ بقدر ما هي محاولة " لغسل خطايا" ..أو تقديم صورة مخالفة ما كان وجري .. محاولة لصناعة بطولة زائفة.. وخاصة في ظل الاهتمام بقراءة هذه الكتابات، في لحظة الخلاص من جماعة الإخوان. الذكري رقم 40 لحرب أكتوبر جاءت مُحمّلة بمذكرات لعسكريين سابقين أو دبلوماسيين خدموا داخل المؤسسة العسكرية، بداية من سامي عنان، الذي لم تصدر مذكراته بعد في كتاب، مروراً بالمشير الراحل أحمد إسماعيل علي، وأخيراً "كلمة السر" التي طال كتمانها حتي صدرت مؤخراً بعد أكثر من ثلاثين عاماً من كتابتها، إلي جانب طبعات جديدة لمذكرات أخري قديمة. من ناحية يبدو تزاحم هذه الكتابات وكأنه محاولة لتعويض غياب الوثائق الرسمية الخاصة بتلك الحرب، والاكتفاء بتقديم الأوبريت تلو الآخر، ومن ناحية أخري محاولة لاحتلال موقع المؤرخ. هنا نتناول هذه الكتابات ونحاول قراءة هذه الظاهرة. يحتار الروائي يوسف القعيد في اختيار الوصف المناسب لهذه الظاهرة "هوجة.. تيار..فرقعة"، ثم يقول، بشكل أكثر حسماً، "هي هوجة مذكرات"، بينما يشير الروائي محمد ربيع إلي أن هناك هوسا لدي العسكريين بالمذكرات والسير الذاتية، "لمحت ذلك بالعديد من المواقف معهم، وأذكر أن أحمد شفيق خلال تصريحاته في الحملة كان حينما يريد أن يقدم نفسه باعتباره مثقفاً، أو يقرأ الكتب، يقول أنه يفضل قراءة السير الذاتية تحديداً"، ويضيف يبدو أن الجاذب بالنسبة لبعض العسكريين هو "سيرة شخصية تكشف عن جاذبية ما"، وربما يفضل بعضهم، أحيانا، أن يضع نفسه في موقع البطولة هذا، وهو أمر في غاية السهولة كما يراه الروائي يوسف القعيد، حيث يقول إنه في ظل غياب أي قانون يحدد مدة زمنية بعدها تكون الوثائق متاحة للإطلاع عليها ستظل الحرب، مثلا، سراً، ويوضح"ربما تكون العديد من هذه الروايات الذاتية لبعض الأحداث في الحرب قابلة للتشكيك فيها، لكن الوصول للحقيقة سيكون عبر عرض المعلومات الحقيقية..أين الرواية الرسمية للحرب؟"، ثم يتساءل "لماذا نتعامل مع تاريخنا بمنطق الهواة؟!".
المذكرات محاطة دوماً بجدل، أشرف مروان حينما مات بلندن كان بصدد كتابة مذكراته، والراحل أسامة الباز رفض أن يكتب مذكراته لخطورة إصدار مذكرات في بلادنا حيث تكون النية فقط سبباً كافياً للقتل، لكن ذلك، بالطبع، لم يمنع هذه الظاهرة فحينما مات عمر سليمان، آخر رؤساء المخابرات في عهد مبارك، ونائبه، والمرشح المستبعد من أول انتخابات رئاسية بعد الثورة أعلن مدير حملته علي موقع فيسبوك أنه يمتلك مذكرات اللواء الراحل، تم الترويج لهذه المذكرات بوصفها الصندوق الأسود لرجل المخابرات الراحل، وكنز معلومات عما جري بمصر خلال فترة مبارك، لكن لم تقدم مذكرات ولا فتح للقارئ صندوقا أسود أو أي صندوق. سامي عنان رئيس الأركان السابق هو من فتح الصندوق الأهم، حيث تم مؤخراً تسريب واحد من فصول مذكرات، التي لم تنشر بعد، ما تم تسريبه يكشف كيفية تعامل المؤسسة العسكرية مع الثورة منذ لحظاتها الأولي. (المذكرات التي حظيت بتعليق حاسم من جانب المؤسسة نفسها، حيث نفت مسئوليتها عما جاء بها). عنان قال، مثلا، إنه اقترح القيام بانقلاب في يناير 2011.. مذكرات عنان تهدف للعب أكثر من دور، إذ تبدو وكأنها " تكريس لاحتكار كبار القادة المعلومات الخاصة بالماضي، بل وصناعتهم للمستقبل أيضاً.. يعلق القعيد "صناعة أو إدعاء دور بطولي.. هو ما فعله عنان، حينما نشر فصلا واحدا من المذكرات، التي لا نعرف ما بها، كان يحاول أن ينسب لنفسه الفضل، هكذا كانت المذكرات مطية لخدمة غرض في نفس كاتبها، الحالم بالترشح للرئاسة".
يبدو القعيد معترضاً علي وصف ما ينشر هذه الأيام بالمذكرات، هي مجرد "أوراق شخصية"، حيث يفضل وضع أغلب ما كتبه العسكريون عن الحرب، أو أي فترة من التاريخ الوطني، باعتباره "أوراق، أو ذكريات". ويوضح قائلاً "لا توجد وثائق عن الحرب، نحن لا نعرف شيئاً عن دفتر يوميات الحرب. الأوامر الصادرة في كل وحدة..كل هذا لا نعرف عنه شيئاً. كل من كتب مذكراته يكتبها من زاوية مشاركته فقط، المشير أبو غزالة مثلا كتب عن تجربته في سلاح الدفاع الجوي، في كتابه الضخم المكون من 5 كتب "وانطلقت المدافع عند الظهر"، وهو ما يؤكد أن هذه الكتابات تقوم بتفكيك الحدث التاريخي الهام". كما يعتبر القعيد أن المذكرات يجب أن تكون موثقة "ينبغي أن يتم تحقيقها من جانب مؤرخ لديه خبرة كافية بالتاريخ الذي يتناوله الكتاب، وأن تكون خاضعة لدراسة خبير خطوط مثلاً ليدقق ما إذا كانت نسبتها لصاحبها صحيحة أم لا..وهذا لايحدث عندنا".
" كلمة السر: مذكرات مبارك" أحدث ما صدر مؤخرا، المذكرات استعادة كذلك لما تحصن به أنصار مبارك دائما "الماضي البطولي" أمام الثورة التي خلعته، مع تغافل وقائع فساده واستبداده ووثائق انتهاك رجاله في كل المؤسسات للحريات وحقوق المواطنين.. هكذا يكرس الكتاب الجديد لفترة ما قبل السياسة، ليعود مبارك في الذكري الأربعين لحرب 6 أكتوبر بطلاً. الحكاية التي يروج لها محرر المذكرات، عبد الله كمال، أنها ظلت حبيسة أدراج عائلة الإذاعي محمد الشناوي، المحرر الأول لها، والذي حررها حينما كان المخلوع نائباً، وبقيت "كلمة السر" سراً. يكتب كمال، موضحاً، الحكاية "ليس معروفاً علي وجه الدقة ما هو السبب الذي منع نشر تلك المذكرات، وما الذي منع عملية النشر بعد أن اكتملت الوثيقة..غير أن المؤكد أنه كان هناك حرص عائلي علي الاحتفاظ بالوثيقة إلي أن يحين وقت تنفيذ وصية الوالد الراحل بالنشر، عندما يجد ابنه ذلك مناسباً. في بداية 2013 وضع الاستاذ حازم الشناوي ثقته في كاتب هذه السطور وسلمني صورة من هذه المذكرات الوثيقة ". ويعلق القعيد قائلاً:" مذكرات مبارك، المعنونة ب"كلمة السر" علي سبيل المثال، كتبت منذ فترة طويلة، وكان ينبغي أن يتم التأكد من نسبتها له، عن طرق خبير يعرف خطه، أو أن تقدم للقارئ إجابة عن سؤال لماذا لم تنشر إلا الآن" الأمر ينطبق علي مذكرات السادات المزعم نشرها، كما يري القعيد "مرت أكثر من 30 عاماً علي وفاة صاحبها، لماذا تنشر الآن؟ وكيف تم السكوت عنها طوال هذه السنوات؟ أحيانا تكون المذكرات محفوظة في خرانة أحد البنوك وذلك بأمر من صاحبها، ويكون موعد نشرها محدد بوصيته مثلاً، لكن هذا لا يحدث في بلادنا".
ما كتبه مبارك فعلياً لا يتجاوز الصفحة الواحدة، بخط اليد، صورت ووضعت في صدر الكتاب. الكلمات والأسطر المعدودة الموقعة باسم نائب رئيس الجمهورية، دون تاريخ محدد، لم تخل من الأخطاء الإملائية، التي تم تصحيحها بشكل واضح. المذكرات كانت تقع في 500 صفحة من الورق الفلوسكاب، بخط يد الشناوي وتحمل بعض صفحاتها تعليقات لمبارك نفسه بالقلم الأحمر. يعاود القعيد الكلام حول نوعية هذه الكتابات حيث يقول "تشعر وأنت تقرأ هذه الكتب، سواء كنا نتكلم عن أوراق الشاذلي، أو أبو غزالة، أو غيرهما، أنك تقرأ معركة شخصية.. الكاتب هو صانع الحرب الوحيد". كما يشير إلي غياب البعد الإنساني، حيث يري أن الحكاية، غالباً، ما تكون مغلفة بروح استراتيجية أو عسكرية في التعبير عن المعركة، ويتم تغافل البشر الذين كانوا معه في المعركة.. كأنه يروي حربه الخاصة التي خاضها مع بعض الأسلحة والأدوات! بينما يعلق الروائي محمد ربيع صاحب "عام التنين"، علي نشر المذكرات حالياً، بقوله "يبدو أن الهدف هو إعادة مبارك في صورة البطل، بطل الحرب" المذكرات بالفعل تقدم مبارك في صفة البطولة. ربيع قرأ العديد من مذكرات العسكريين المصريين، "لا أتعامل معها بوصفها كتابة تاريخية، أو وثيقة". كما يشير إلي مذكرات الشاذلي علي سبيل المثال، يمكنك أن تستشعر قدرته علي إبراز شخصيته القوية " كان يتكلم بندية عن الرؤساء، رغم أنه كان رئيس الأركان، سواء كان يتكلم عن ناصر أو السادات، الخطط التي كان يقدمها كانت نهائية ولا ينتظر رأيا أو الكلمة النهائية من الرئيس".