بعد النشر تفقد المسودة أهميتها. لم يعد الكاتب ينظر لمسودة عمله.. هي متاع الكاتب الزائد، بعد الطباعة لا أهمية للمسودات. رغم ذلك بعض المسودات لها أهميتها.. في السطور القادمة نحاول كشف الغموض عن مسودات نجيب محفوظ، كما يقارن يوسف القعيد بين مسودات دستيوفسكي ومخطوط عبد الفتاح الجمل ل"محب". ويحدثنا عبده جبير عن الدافع الخفي لاحتفاظه بجميع المخطوطات. ونكتشف أيضاً المصير الخفي لمسودات عفيفي مطر، التي لم تنشر "المسودة ثروة قومية".. حسب وصف الروائي يوسف القعيد. يقترح أن تقوم دار الكتب بالبدء في مشروع قومي لجمع مسودات ومخطوطات الكُتّاب. هي وثيقة في ذمة التاريخ، لذا لابد من الحفاظ عليها كثروة قومية. يذكر الكاتب أمثلة عدة منها متحف للإسكتشات الأولي لبيكاسو، أقيم المتحف في اليابان، بوصفه "استثماراً حضارياً، رغم أن الرسام أسباني، إلا أن تخطيطاته الأولية للوحات لاقت حفاوة بعيداً ..في اليابان". اطلع القعيد مؤخراً علي مسودة "محب" لعبد الفتاح الجمل، ويري أنها لا بد أن يتم تدريسها في أقسام الأدب العربي " عمل ضخم مكتوب بخط اليد. يقع في ثلاثمائة صفحة ولا يوجد به خطأ واحد. لم يشطب الجمل كلمة، لم يضع علامة ترقيم في غير محلها"، مسودة الجمل إجمالا"تحفة" حسب تعبيره. يقارن القعيد بينها وبين النسخ المتاحة لدستيوفسكي بمتحفه بروسيا :"مسودة الجمل تحفة فنية، بينما مسودات الكاتب الروسي الكبير كانت لغزاً بالنسبة لي. هناك أسهم كثيرة، أنت أمام خريطة لمكان مجهول، وليس مسودة كتاب، فمن المستحيل فك الشفرات التي وضعها الكاتب الكبير علي مخطوطته". من ناحية أخري يحرص الكاتب المنتمي لجيل الستينيات علي الاحتفاظ بمسودات أعماله، الأعمال الأولي علي الأخص، المكتوبة بخط اليد. يقول القعيد إن الدكتورة سهير القلماوي أشادت ذات مرة بمسودة "أخبار عزبة المنيسي". ذكرت الراحلة أن "علامات الترقيم كانت دقيقة، والسرد المكتوب بطريقة "الفلاش باك" كان بلون آخر لتمييزه". مسودة لأعلي سعر يذكر القعيد أن الروائي الإماراتي محمد المُرّ كان قد عرض علي نجيب محفوظ أي مبلغ يطلبه حتي يتيح له صاحب نوبل أي مخطوط أصلي له، لينشره المُرّ ضمن مشروع يضم مسودات كبار الكتاب الحاصلين علي نوبل:"لكن نجيب لم يكن يمتلك أية أصول حسبما قال لي في حياته".. حسبما يؤكد. كما يشير القعيد إلي أن الراحل د. مصري حنورة كان قد نشر بعض الصفحات من المخطوطات الأصلية لصاحب نوبل" لا أعرف إذا كان محفوظ كان قد منحه نصوصه في مسودتها الأصلية أم لا!؟. أسأله ما مصير مخطوطات محفوظ؟ فيجيب: "هناك حرب حقيقية عليها.. الموضوع محاط بالغموض، لا أعرف إذا كانت موجودة أم لا؟ وهل هي بحوزة الورثة أم يحتفظ بها ناشره القديم، أم تتواجد بجريدة الأهرام!؟". مسودات ضائعة "مع الأسف لم نحتفظ بأي من مسودات أعمال الراحل الكبير".. إجابة مقتضبة، لا تخلو من الأسي، يرد بها أمير السحار(مكتبة مصر) علي سؤالنا عن مسودات الراحل نجيب محفوظ. كانت المسودات تتحول إلي حروف من الرصاص، حسب خطوات الطباعة القديمة، ولم ينشغل أصحاب الدار التي نشرت أغلب اعمال الراحل الكبير بالحفاظ علي كنوز محفوظ الخفية عن القراء، أو إحدي مراحل كتابة الرواية قبل النشر. كانت المسودات تأتي للدار مكتوبة بخط يد الراحل الكبير، ويشرف الناشر والكاتب سعيد جودة السحار علي تنفيذ الطباعة.. حسبما يؤكد نجله أمير. "كانت المسودة محفوظ تنتقل إلي يد عمال المطبعة لتنفيذها، وكانت تصل الفنان جمال قطب، لوضع الرسوم الداخلية، ولإعداد الغلاف، كل ذلك كان يتم تحت إشراف الوالد". في هذه الرحلة الطويلة ضاعت كل مخطوطات الكاتب الكبير. فقدنا كنزاً لا يقدر بثمن..هكذا لم تعد مخطوطات صاحب النوبل الأدبية بين أيدينا، أول كاتب سيخصص متحف له، سيكون بلا مسودات أعماله علي ما يبدو. الأمر ربما يرتبط بدور الكاتب نفسه في اختفاء المخطوطات، حيث يتردد أن الراحل الكبير كان لا يحتفظ بمسوداته.. مصير مسودات محفوظ لا يزال محاطاً بالغموض. من وحي فيلليني علي العكس من المصير الغامض لمسودات محفوظ تحاط مسودات عبده جبير باهتمام بالغ، وسبب ذلك حكاية يرويها لنا صاحب "عطلة رضوان".. حينما كان الروائي عبد الفتاح الجمل مسئولاً عن ملحق المساء الأدبي، ذهب جبير لمكتبه لينشر ثلاثة نصوص، لم يجد الجمل هناك، فلم يتركها، بل احتفظ بها، لكنه احتفت "كانت النصوص في جيبي، ذهبت لمقهي ريش، وحينما عدت للمنزل لم أجدها". حاول استرجاع النصوص من الذاكرة، لكنه لم يفلح.. بسبب هذه الحكاية كوّن أرشيفه الخاص. يخصص لكل عمل يكتبه حافظة خاصة به، ويوضح جبير: "احتفظ فيها بكل ورقة كتبتها خلال كتابة العمل، حتي الوثائق التي اعتمدت عليها عند الكتابة. قصاصات الجرائد، الصفحات المصورة من الكتب. الملاحظات التي كتبتها، حتي لو كانت مجرد نقاط، أو جمل تحدد مسار الشخصيات..كل هذا احنفظ به".. أي أن كل ما يتصل بتطور العمل، منذ أن كان فكرة حتي اكتماله، محفوظ لدي جبير. حينما كتب عبده "عطلة رضوان" احتفظ بألف صفحة اشتملت علي قصاصات جرائد، معلومات عن مدينة بورسعيد، وقناة السويس "الذي أحتفظ به أضخم مما نشرت ..الوثائق تزيد عن 80 ٪ مقارنة بصفحات الرواية". المسودة هي الكتابة عند جبير، فهناك مسودة واحدة فقط. أسأله: هل تأثرت بنص لك أو لغيرك ليكون مسودة ينطلق منها عمل جديد لك؟ فيبجب:" الكاتب لابد أن يتأثر بالتاريخ.. أي أن تكون لقراءته لأعمال أخري، سواء كانت كلاسيكية أو حداثية، تأثير عليه، وإلا سيكون كاتباً جاهلاً"! حكاية أخيرة يرويها جُبير، تؤكد مشروعية التأثر.. فقد كان يشاهد ذات مرة فيلماً لفيلليني، "كان العمل مستفزاً جداً بالنسبة لي.. لدرجة أنه كان محفزاً للكتابة"، وبالفعل خرج من مكان العرض، المركز الثقافي الروسي، ليجلس إلي أحد مقاهي الدقي، ولم يغادره إلا بعدما كتب ثلاثة نصوص تأثراً ب"ساتريكون" فيلليني. حكايات عن عفيفي مطر كان آخر ما تركه محمد عفيفي مطر مسودة بخط اليد.. تركها للنشر بإحدي المجلات الثقافية ورحل. كان الشاعر الكبير يرد نشر أحدث قصائده بخط يده..هكذا كتب قصيدة "فاتحة للدرويش" علي فرخ ورق الكانسون المخصص للرسم، وكتبه بقلم بخط عريض، 1.5، وبعثه لإحدي المجلات الخليجية، لكن المسودة ضاعت هناك! المسودة التي نتحدث عنها كانت آخر أعمال الراحل، ويتردد إنها غير مكتملة فقد عنون الصفحتين التي كتب عليهما القصيدة برقم واحد، وفي الصفحة الثالثة كتب رقم اثنين دون أبيات أسفله.. هل يمكن اعتبار فاتحة الدرويش مكتملة!؟ وهل ستصدر ضمن الديوان المؤجل"يقين الرمل"، ضمن ثلاثة دواوين كانت في انتظار الطباعة لحظة وفاة مطر؟ يوضح الشاعر شوكت المصري، زوج ابنة الراحل:" مطر كان ينظر لفاتحة للدرويش بوصفها مكملة لحالة ديوان لم يصدر بعد".. قال عفيفي لشوكت أن الديوان الجديد سيكون أفضل إذا ضمّ قصيدة "حملة مئات الألوف"، وهي قصيدة لم تصدر في ديوان بعد، إلي جانب الفاتحة ونص آخر، لكنه لم يحدد النص مع الأسف! من ناحية أخري كان مطر ينظر للمسودة بشكل أعمق.. فهي لم تكن مجرد خطوة أولي سابقة للنشر، مثلما هي العادة، بل أن المسودة الجديدة من الممكن أن تؤثر علي الدواوين المطبوعة من قبلها.. حيث أراد عفيفي أن تساهم المخطوطة في صناعة ديوان جديد.. يروي المصري حكاية تكشف هذا الجانب: بعدما نشرت هيئة قصور الثقافة ديوان "المُنمات" عام 2007، شعر الراحل أن الديوان لا يزال مسودة.. فقد طلب من المقربين منه أن تحذف إحدي القصائد لتوضع في ديوان جديد "لتكمل الحالة الخاصة بهذا الديوان، والقصيدة المقصودة هي "رعويات عبد الله"، التي تتماشي مع مجموعة قصائد أخري، لم تصدر في ديوان واحد بعد.. هكذا رأي أن الأفضل، والأكثر كمالاً، إذا تم ضم القصيدة لديوان يحمل عنوان "ملكوت عبد الله".. كان عفيفي ينظر للديوان باعتباره جسدا مكوناً من عدة أعضاء وبالنسبة للجسد الجديد _"ملكوت عبد الله"- كانت تنقصه "الرعويات"، لذا آمل الراحل أن يكتمل الجسد بما نشر سابقاً في "المنمات"! السؤال الآن كيف كان عفيفي يتعامل مع المسودة؟ الحكاية يصعب الوصول إلي أصلها بعد رحيل صاحبها، لكن شوكت المصري يوضح أن الراحل كان حينما يكتب المسودة لا يجري تعديلات كثيرة، رغم أن أغلبها كان مكتوباً بالقلم الرصاص، حيث يقول: " يحرك موقع بعض الأبيات من مكانها، أو يحذف كلمة. حسب متابعتي لعمليات التعديل التي كان يقوم بها، يمكن القول إنها كانت في أضيق الحدود". لم تكن المسودة خطوة أولي بالنسبة للراحل" لم يكن يكتب قصيدة إلا إذا كان محتشداً لها تمام الاحتشاد"، يذكر شوكت أن بعض القصائد كان تستغرق أكثر من 20 يوماً للتأمل، قبل أن يكتبها علي المخطوطة.. بعض أعمال الراحل: "كان يراها غير مكتملة"، أو كما يضيف شوكت :" جسد الديوان لا يزال منقوصاً فقد "كتب قصيدة عام 99، وأخري عام 2001، وكان يشعر بأنه لا يزال في انتظار قصيدة ليصنع ديوان".. هكذا كان مطر ينظر لأعماله كما لو أنها لا تزال مسودات علي ما يبدو. متحف فارغ! حينما بدأ محمد صلاح العزب الكتابة كان يحتفظ بأكثر من مسودة للعمل الواحد، حيث يقول:" كنت أحتفظ بأربع مسودات للعمل الواحد. كنت أعتبر أن هذه المسودات سيكون لها شأن عظيم".. يضحك العزب من هذه الفكرة، ثم يضيف:" كنت أظن أن كل كاتب سيكون له متحفاً في النهاية، لذا كنت أعد المسودات حتي لا يكون متحفي خاوياً". يبرر العزب سخريته من الفكرة الآن بقوله "حتي متحف نجيب محفوظ لا يزال تأسيسه متعثراً ..لذا قررت أن أتخلص من مسوداتي بدلاً من أن يتخلص منها غيري"! أما الآن فلم تعد هناك مسودات، كما يوضح صاحب "وقوف متكرر"، المسألة صارت مجرد نسخة واحدة من ملف ورد تفقد أهميتها بعد النشر! مصير مجهول آخر في النهاية تجدر الإشارة إلي كاتب رحل عنّا شاباً.. كان ينظر للعالم كما لو أنه مخطوطة يكتبها كما يريد..من اليسار إلي اليمين، أو تكون صفحاتها مقلوبة بحيث تقرأ من أسفل لأعلي. نقصد محمد ربيع، الذي طبع مسوداته كلها، علي نفقته، وبقيت الأعمال كمسودات تبحث عن ناشر!