تواجه مصر والدول العربية هذه الأيام مرحلة حاسمة وشديدة الحساسية في إدارة علاقاتها الإقليمية والدولية ناتجة عن حزمة غير مسبوقة من المتغيرات تداخلت وتفاعلت فيما بينها علي مدي الأعوام الثلاثة الأخيرة علي وجه الخصوص والمحصلة هي ذلك الواقع شديد التعقيد الذي يفترض بداية وجود عقل استراتيجي مصري يعمل جنبا إلي جنب مع عقل استراتيجي عربي قادر علي تحديد ماهية المصالح الحيوية العليا لمصر وللدول العربية, وما هي مصادر التهديد الأساسية والأخري الثانوية لهذه المصالح, وقادر أيضا علي إدارة علاقات الصراع وعلاقات التنافس وعلاقات التعاون مع القوي الإقليمية والدولية باحتراف ومهنية وبإدراك عال ومسئول لموقف كل من هذه القوي الإقليمية والدولية من مصالحنا, وبوعي يصل إلي درجة اليقين بوجود درجة عالية من التوحد بين مكونات الأمن الوطني المصري وما يعتبر أمنا قوميا عربيا يعبر عنه بمصطلح المصير العربي الواحد, أما الأهم من هذا كله فهو امتلاك البوصلة الاستراتيجية التي نستطيع أن نحدد من خلالها: من نحن وماذا نريد. فالدول العربية تواجه في معظمها حالات من عدم الاستقرار السياسي ناتجة عن عوامل كثيرة بعضها داخلي سياسي واقتصادي وأمني, وبعضها خارجي بسبب كثافة التدخل الخارجي غير المسبوق في الشئون الداخلية للدول العربية, كما أن القوي الإقليمية الكبري في الإقليم الواسع الذي نعيش فيه( إقليم الشرق الأوسط) تشهد هي الأخري تطورات داخلية مهمة انعكست بقوة علي سياستها الخارجية الإقليمية وامتد تأثيرها لتهديد مصالح عربية عليا:( إيران وتركيا وإسرائيل), في الوقت الذي يشهد فيه النظام العالمي هو الآخر تغيرات غير مسبوقة في هيكليته أبرزها بالطبع ما يمكن وصفه ب أفول القوة الأمريكية الإمبراطورية وبزوغ أدوار قوي آسيوية عملاقة( الصين واليابان والهند) وعودة قوية لروسيا الاتحادية تهدف كلها إلي فرض نفسها كقوي قادرة علي التأثير في مسار حركية النظام العالمي علي حساب محورية التحالف الأمريكي الأوروبي. هذه تطورات يمكن وصفها بأنها تطورات عامة لكن هناك تطورات محددة هي الأكثر تأثيرا في المصالح العربية, أبرزها ما أحدثته وما تحدثه موجة الثورات العربية من ارتباك في إدارة السياسات داخل كل الدول العربية ومن اهتزاز, إن لم يكن افتقاد, ل البوصلة الاستراتيجية القادرة علي ضبط أجندة الأهداف الوطنية العليا والتبصر بما يجب أن تكون عليه العلاقات مع القوي الدولية والإقليمية. ومنها حالة العصبية غير المسبوقة من جانب الإدارة الأمريكية المقترنة بالعجز في التعامل مع قضايا عربية بارزة في مقدمتها اضطراب إدارة واشنطن لعلاقاتها مع مصر ودول عربية أخري, والاقتراب الأمريكي غير المحسوب في العلاقة مع إيران, وغير المحسوب هنا تعني غير المكترث بالمصالح العربية التي يمكن أن تتهدد جراء هذا التقارب الأمريكي مع إيران. كيف ستؤثر هذه التطورات علي إدارة مصر والدول العربية لعلاقاتها مع كل هذه القوي الإقليمية والدولية ومشروعاتها في إقليمنا الأوسع( الشرق الأوسط)؟ السؤال تفرضه ثلاثة تطورات مهمة: التطور الأول, ذلك القرار الأمريكي المعلن يوم الأربعاء(9 أكتوبر الجاري) بإعادة النظر في حجم المساعدات الأمريكية لمصر من خلال تجميد مساعدات عسكرية( مروحيات أباتشي وطائرات أف16 وصواريخ هاربون, وقطع غيار لدبابات ابرامز) وتجميد250 مليون دولار مساعدات اقتصادية. التطور الثاني, اعتذار المملكة العربية السعودية عن قبول عضويتها في مجلس الأمن الدولي بعد اختيارها لتمثيل الدول العربية في عضوية هذا المجلس, وهو الاعتذار الذي كان له وقع الصدمة في أروقة الأممالمتحدة. أما التطور الثالث, فهو ما أفصحت عنه صحف إسرائيلية من توجه دول عربية للتقارب مع إسرائيل, أو علي الأقل للتنسيق معها في ملفات إقليمية مهمة بالنسبة لها كرد فعل لما هو مثار من تقارب أمريكي إيراني تراه هذه الدول العربية, كما تراه إسرائيل خطرا ساحقا علي مصالحها. بالنسبة للتطور الأول الذي حاولت بعض الأوساط الأمريكية والمصرية التقليل من ثقل وطأته يعد صدمة هائلة لكل من راهنوا ومازالوا يراهنون علي تحالف أمريكي استراتيجي مع مصر, دون أي اكتراث لما يعنيه هذا التحالف من كونه الوجه الآخر ل تحالف مصري- إسرائيلي. فالتحالف المصري الإسرائيلي لا يمكن أن يكون له أي وجود في غياب وجود تحالف أمريكي مصري وهذا ما يدركه الإسرائيليون ويعملون من أجل استمراره وترسيخه. فهم في إسرائيل يرون أن التباعد المصري الأمريكي سوف يستتبعه تباعد مصري إسرائيلي, ومزيد من الاستقلالية للقرار المصري, خاصة فيما يتعلق بالتسلح العسكري وهذا ما يخشاه الإسرائيليون, لأن التفرد الأمريكي بتسليح الجيش المصري كان أكبر ضمان للإسرائيليين بعدم حصول مصر علي أسلحة قادرة علي تهديد إسرائيل أو التفوق عليها. لم تتعامل مصر كما يجب مع القرار الأمريكي وبدلا من اتخاذه حافزا لخطوات حقيقية علي طريق التخلص من التبعية الاقتصادية والعسكرية للأمريكيين جري احتواؤه سياسيا وإعلاميا من جانب اللوبي الأمريكي وكأن ما حدث ليس إلا مجرد سحابة صيف رغم ما جاء بقرار تجميد المعونات الأمريكية من اشتراط الوصول بخريطة طريق المستقبل إلي نظام ديمقراطي يشمل كل الأطراف, أي يشارك فيه الإخوان. أما القرار السعودي بالاعتذار عن قبول عضوية مجلس الأمن فإنه قرار مهم جدا, وقد تأخر كثيرا, وكان يجب أن يحدث منذ سنوات بموقف عربي جماعي اعتراضا علي انحياز الأممالمتحدة للكيان الصهيوني وتسويف الحل العادل للقضية الفلسطينية ومن تستر أمريكي علي الترسانة النووية الإسرائيلية. لكن المشكلة أن القرار جاء سعوديا وليس ضمن مشروع عربي مدروس, وأن دولا عربية ترفضه وتسعي إلي إقناع المملكة بالتراجع عنه. يجئ التطور الثالث وهو الأخطر الخاص بتقارب عربي خليجي مع إسرائيل ردا علي ما يشاع من تقارب أمريكي إيراني, أقل ما يوصف به هذا القرار( التقارب الخليجي الإسرائيلي) أنه قرار انتحاري يؤكد الفشل والعجز عن إيجاد البدائل الأكفأ في تحقيق الأهداف, بدائل مدروسة وليست انفعالية وسلبية تحمي الأمن والوجود العربي الذي هو باليقين نقيضا للأمن والوجود الإسرائيلي. دراسة هذه التطورات وكيفية التعامل العربي معها تكشف أننا نفتقد فعلا البوصلة الاستراتيجية ونعاني من غياب الوعي والعقل الاستراتيجي, وهنا مكمن الخطر الكفيل بتبديد كل ما نسعي إليه. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس