الانكفاء المصري الداخلي دون اكتراث حقيقي بما يموج من تفاعلات شديدة الأهمية والخطورة علي المستويين الإقليمي الشرق أوسطي والعالمي ناهيك عن تطورات وتفاعلات موجة الثورات العربية بين النجاح والإخفاق وما ينتظر الوطن العربي والإقليم كله جراء ما سوف يحدث في سوريا من صراعات, أشد ضراوة من التي نراها الآن, مع سقوط بات محتملا لنظام بشار الأسد. انكفاء يكشف عن مدي العجز الذي نحن فيه, وهو في اعتقادي عجز مركب, عجز في غياب الاستراتيجية الوطنية العليا التي تتضمن الأهداف والمصالح الوطنية الحيوية, ومصادر تهديد هذه الأهداف والمصالح, وعجز في امتلاك البوصلة الواضحة في إدارة علاقات التحالف والصراع مع جميع القوي الإقليمية والدولية انطلاقا من إدراك الأهداف والمصالح الوطنية ومصادر التهديد لهذه الأهداف والمصالح, وعجز في امتلاك المؤسسات المتخصصة القادرة علي القيام بالأدوار المهمة في صنع قرار السياسة الخارجية والقيام بالمهام المتنوعة لتنفيذ تلك القرارات. فنحن نخوض في الداخل صراعاتنا الجهنمية ضد بعضنا البعض, التي هي في أغلبها, صراعات علي السلطة بين من يخوضون معركة التمكين لجماعة الإخوان المسلمين في السيطرة والهيمنة علي مصر ومن يتصدون لهذه المعركة, وفي النهاية نجد أنفسنا نجتهد في تبديد القدر المحدود المتاح لنا من الموارد الوطنية, لكن ما هو أخطر هو إهدار أعظم إنجاز مصري في التاريخ الحديث وهو الثورة. فالثورة التي رفعت شعار الشعب يريد إسقاط النظام تواجه الإخفاق تلو الإخفاق في عقاب غير مسبوق لهذا الشعب العظيم علي قيامه بتلك الثورة, وليس هناك من دليل علي انتكاسة الثورة أكثر من ذلك الظهور الاستفزازي للرئيس المخلوع الذي حاول فيه أن يعاقب الشعب وأن يؤكد أن هذا الشعب أعجز من أن يسقط أو يعاقب جلاديه. في الوقت الذي ننشغل نحن فيه بتصفية بعضنا البعض ونتجرأ فيه علي أهم مرتكزات وحدتنا الوطنية: الأزهر والكنيسة, ونتعمد كسر هيبة القضاء ويتجه بعضنا إلي الجيش كهدف محتمل للتدمير هو الآخر أو علي الأقل الاختراق, ينشغل الآخرون برسم هندسة جديدة للنظام الإقليمي للشرق الأوسط ووطننا العربي في قلب هذا النظام. المقصود بالهندسة الجديدة لنظام الشرق الأوسط فرض معادلة توازن قوي جديدة لصالح أطراف بعينها, ورسم خرائط تحالفات وصراعات جديدة في الإقليم انطلاقا من التداعيات المحتملة لموجة الثورات العربية وما أسقطته من نظم وما فرضته من تطورات. فالسؤال الذي يشغل الإسرائيليين الآن, علي سبيل المثال, هو: كيف تبدو بيئة إسرائيل الاستراتيجية في ظل التهديدات والفرص المتجددة والمتلاحقة حولها؟ السؤال مطروح بكثافة في أروقة دوائر صنع القرار الاستراتيجي ومراكز البحوث ذات العلاقة بالقضايا الاستراتيجية والأمنية والسياسة الخارجية في إسرائيل, وأحسب أن تركيا وإيران مشغولتان أيضا بالقضايا نفسها وإن كان محور الاهتمام يختلف من طرف إلي آخر, لكن الأهم من ذلك هو أن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تفرض نفسها كقوة إقليمية عالمية في إقليم الشرق الأوسط هي من أخذ المبادرة, كما هي العادة, للبحث في ضرورة التأسيس لنظام إقليمي جديد أو إعادة هندسة النظام الإقليمي الشرق أوسطي في ظل التطورات شديدة الأهمية في الإقليم بما يحمي المصالح الأمريكية في الإقليم, وبما ينسجم مع الاستراتيجية الأمريكية العالمية الجديدة المتجهة إلي نقل ثقل الصراع العالمي من أوروبا والشرق الأوسط إلي الشرق الأقصي لمواجهة خطر بروز الصين كقوة عالمية قادرة علي المنافسة مع الولاياتالمتحدة وخطر احتمال تكوين محور عالمي آسيوي يضم الصين وروسيا والهند. الأمريكيون اتخذوا مبادرات سابقة من هذا النوع عقب سقوط الاتحاد السوفيتي وبروز الولاياتالمتحدة كقوة عالمية أحادية قادرة علي الهيمنة. فقبل أن تشرع في غزو العراق واحتلاله عام2003 طرحت الولاياتالمتحدة مشروع الشرق الأوسط الكبير تحت شعار إعادة ترسيم الخرائط السياسية للدول. وعقب الحرب الإجرامية الإسرائيلية علي لبنان صيف2006 تراجعت واشنطن عن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي فشل بفضل المقاومة العراقية البطولية ودعت إلي تأسيس شرق أوسط جديد يقوم علي ثلاثة مرتكزات أولها استبدال الصراع في المنطقة ليصبح صراعا عربيا- إيرانيا بدلا من أن يبقي صراعا عربيا إسرائيليا بكل ما يعنيه ذلك من تصفية للقضية الفلسطينية, وثانيها فرض إيران كعدو وكمصدر للتهديد لدول المنطقة بدلا من إسرائيل, وثالثها فرض الصراع المذهبي السني الشيعي كوسيلة أساسية لإنجاح هذا المشروع الذي أدي فعلا إلي حدوث استقطاب عربي عربي بين ما سمي بدول الاعتدال وما سمي بدول الممانعة. الآن, وبفضل موجة الثورات العربية وما أحدثته من إسقاط لنظم حليفة للولايات المتحدة, تم تفجير الثورة في سوريا والمخاطر الهائلة التي تنتظر سوريا والمنطقة مع السقوط المحتمل للنظام السوري, اتجهت الولاياتالمتحدة نحو إعادة هندسة إقليم الشرق الأوسط مجددا لمواجهة المخاطر المتجددة والمتوقعة ولترتيب المنطقة بما يحقق استقرارها كي تتفرغ لصراعاتها الجديدة في الشرق الأقصي, والمدخل لهذه الترتيبات كان تجديد وترميم التحالف المتداعي بين تركيا وإسرائيل بإرغام رئيس الوزراء الإسرائيلي علي تقديم اعتذار علني عن الاعتداء الإسرائيلي علي السفينة مرمرة التركية التي كانت تقود ما سمي ب أسطول الحرية صيف2010 لكسر الحصار الظالم ضد قطاع غزة, حيث كان هذا الاعتذار هو الشرط التركي الأساسي للتصالح مع إسرائيل. إسرائيل اعتذرت لتركيا, وتركيا قبلت الاعتذار سريعا, مما يكشف عن أن هناك ترتيبات جديدة بين البلدين بإشراف أمريكي يجري إعدادها كشفها دوري جولد أبرز مستشاري بنيامين نيتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية الاستراتيجيين. فقد كتب جولد مقالات عديدة تؤكد أن الاستقرار في المنطقة هو المدخل للسلام المأمول, وأن هذا الاستقرار لن يحدث إلا بتحالف إسرائيلي- تركي لمواجهة الخطر الإيراني والمسعي الإيراني لامتلاك أسلحة نووية وللهيمنة الإقليمية. واشنطن التي تؤسس لهذه الهندسة الجديدةلإقليم الشرق الأوسط تسعي لضم أطراف عربية ضمن هذا التحالف والهدف هو التصدي لما تسميه ب الخطر الإيراني, ومشروعات التسليح الجديدة لإسرائيل وعدد من الدول العربية في الخليج مؤشرات أولية لذلك. أين نحن من هذا كله؟ لا أحد يهمه أن يجيب لأننا لم نعد نعرف من نحن ولا ماذا نريد, ولا كيف نستجمع قوانا لاستعادة بلدنا وهيبتها وفرضها قوة إقليمية قادرة علي المنافسة وحماية مصالحها والتحالف مع من تتوافق مصالحه مع أهدافنا ومصالحنا والتصدي لمن يهدد هذه المصالح والأهداف. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس