منذ بدء لجنة الخمسين المكلفة بتعديل الدستور أعمالها ظهر التباين في وجهات النظر حول بعض الموضوعات. أهمها ما يعتقد الكثيرون أنها تتعلق بهوية الدولة كالمادة219 من دستور2012 التي احتدم الخلاف بشأنها حتي اعتبر البعض دفاعه عن استمرارها دون تغيير دفاعا عن الدين وبالغ البعض الآخر واعتبر استمرارها أمرا تراق دونه الدماء في الوقت الذي غفل فيه أولئك سهوا أو عمدا- عن قضايا ملحة تتطلب قرارات مجتمعية حاسمة يتوقف عليها مستقبل البلاد في مشهد يمثل نموذجا لكيفية اختيار المعركة الخطأ. لا تزال مشكلات مصر الاقتصادية كما هي في جوهرها بل وتتفاقم مع مرور الوقت حتي تكاد تصل حد الكارثة فمنذ يناير2011 تدني معدل النمو وزادت حدة مشكلات البطالة والتضخم وعجز الموازنة والدين العام وعجز ميزان المدفوعات وظهرت مشكلات جديدة كتراجع الاحتياطيات الدولية وعجز الطاقة في الوقت الذي أدت فيه سياسات وقرارات حكومات الفترة من يناير2011 إلي يونيو2013 إلي زيادة تعقد بعض المشكلات خاصة ما نتج عن الاستجابة لما أطلق عليه المطالب الفئوية التي فاقمت البطالة المقنعة بالجهاز الإداري للدولة ورسخت لدي الكثيرين قناعة بأن الحصول علي ما يعتبرونه حقا لهم يتحقق بالقوة وأيضا ما نتج عن ازدياد رخاوة الدولة وما تبعه من اتساع التعدي علي الحق العام كالتعدي علي الشوارع والأرصفة أو التعدي علي أحد عناصر الإنتاج التي تتسم بالندرة وهو الأرض الزراعية, فلم تثر تلك المشكلات اهتمام من يرون أنهم يدافعون عن هوية البلاد في الوقت الذي تهدد فيه مقومات الدولة الأساسية وتنذر بالخروج عن نطاق السيطرة. ولا يقتصر الأمر علي ضياع الوقت والجهد والنفقات التي لا طائل من ورائها بل يمتد أيضا ليشمل التأخر في البدء في عملية إصلاح حقيقية للاقتصاد فبالرغم من التحسن النسبي لبعض المؤشرات الكلية فما زالت البلاد بعيدة عن الإصلاح وكل ما تحقق من تحسن يعود إلي المساعدات الخليجية التي جعلت الأمور أقل سوءا ولكنها بالتأكيد غير جيدة وهي بطبيعتها لا يمكنها إحداث التحول المنشود بالاقتصاد فالمساعدات الأجنبية سواء كانت عربية أو غربية أو من مؤسسات التمويل الدولية يمكنها فقط أن تسهل من عملية الإصلاح وتجعلها أقل كلفة وبالتالي أكثر قبولا من الجماهير ولكننا لم نصل بعد حتي إلي تلك المرحلة فالبلاد الآن في مرحلة وقف الانهيار ومنع تحول مصر إلي دولة فاشلة وهو الوضع الذي كانت تتجه إليه البلاد سريعا حتي احتلت المرتبة الرابعة والثلاثين من178 دولة( حيث الدولة رقم1 هي الأسوأ و178 الأفضل) في وضع أسوأ من بوركينافاسو ومالي ورواندا وهو تراجع لن تجدي في علاجه النصوص الدستورية التي تتحدث عن الهوية. علي المستوي الفردي لن يشعر المواطن المصري بحدوث تغيير كبير أو بأي تغيير علي الإطلاق في حياته اليومية إن بقيت هذه المادة أو تلك في الدستور ولكنه يشعر بكل ما يؤثر علي توافر الخبز وجودته واستقرار التيار الكهربائي وسيولة المواصلات ومدارس الأبناء وغيرها من أمور الحياة اليومية وعلي المستوي القومي لن يكسب الوطن كثيرا أو لن يكسب شيئا علي الإطلاق إن استمرت مادة أو أكثر تتحدث عن هوية الدولة وهي مؤكدة وراسخة دون نصوص ولكن الوطن سيكسب بالتأكيد إن زاد معدل النمو أو انخفض عجز الموازنة العامة وميزان المدفوعات أو أنشئت مدارس وجامعات ومستشفيات جديدة أو وصلت سلع مكتوب عليها صنع في مصر إلي أسواق العالم أو توقفت سفن تحمل القمح المستورد عن دخول الموانئ المصرية وكلها أمور لن تحققها( مواد الهوية) وإراقة الدماء دونها ولكنها تتحقق بشئ آخر اسمه العمل الذي نتكلم عنه كثيرا ونفتقده أيضا كثيرا. وكما أن الإصرار الشديد علي استمرار تلك المواد فد يكون معبرا عن رغبة صادقة لدي البعض في خدمة الدين والتمسك بما يعتقدون أنه الهوية الحقيقية للأمة فإن ذلك الإصرار يمكن تفسيره أيضا بأنه لجوء للأسلوب الأسهل في التعبير عن الرغبة في خدمة الدين فالبعض يشعر بالرضا والارتياح بعدما أدي ما عليه من واجب( نصرة الدين) بالتظاهر والهتاف ورفع الشعارات وربما تعطيل حركة السير وبعض المرافق والمؤسسات وهناك من يشعر بأنه قد أدي الواجب بحمل السلاح ضد المجتمع ولم يتبع أولئك الأسلوب الأصعب بدفع تكلفة تلك النصرة من تحصيل علم أو بناء مؤسسات أو إصلاح أوضاع, ولم يدرك أولئك أن نصرة الدين الآن ليست في الشوارع التي يرتادونها ليل نهار هاتفين( للشرعية) وليست في أنفاق رفح أو كهوف جبل الحلال ولكنها في قاعات الدرس وحقول القمح وعنابر المصانع وأن الجهاد ليس قتال بني الوطن بل قتال الفقر والجهل والمرض, فوطن يخلو دستوره من مواد الهوية كما يرونها هم ويخلو أيضا من ذلك الثالوث هو بالتأكيد أفضل حالا من وطن يمتلئ دستوره بتلك المواد ويعشش الفقر والجهل والمرض في ربوعه. لمزيد من مقالات جمال وجدى